حسني حسن
فلتدفنوا اليدين أيها الحمقى!
يُروى أن يدي “تشي جيفارا” هما العضوان الوحيدان من جثمانه، المثخن بتسع رصاصات قاتلات، اللذان قيض لهما الإفلات من ذلك المصير التراجيدي، الذي يكتنف هذه الجثة، التي قيل إنها دفنت في مكان مجهول، أو ربما تم إحراقها سرا و ذر رمادها في وجه الريح الجبلية ببوليفيا!
كان استنثاء يدي “تشي” من ذلك المصير، الغامض الملتبس، لا لإعادة غرسهما في تربة كوبا، ولا الأرجنتين، ولا القارة اللاتينية الأمريكية، التي محضها حبه و أطعمها نار روحه المتقدة، و إنما لشحنهما لبيونس ايرس حتى تتمكن سلطاتها من مضاهاة بصمات أصابعه على سجلاتها و محفوظاتها الأمنية، وليتم القطع، مرة واحدة ونهائيا، بمقتل الكابوس الأحمر الأيقوني!
في مرحلة تالية، نجحت كوبا كاسترو- وبرغم ما اشتجر بين الرفيقين القديمين من خلاف معروف للكافة- في استيراد اليدين من الأرجنتين، ليتم تحنيطهما، في هافانا، تخليدا لذكرى الحالم والحلم؛ يد تأتي للفقراء والمساكين بالخبز وبالورود وتحتضن النساء الطيبات العاشقات، والأخرى تحمل الكلاشينكوف لتحرير الحلم من شبهة حلميته الأبدية، ولتنزيله فوق التراب الحر السجين، في قلوب الشغيلة البسطاء والفلاحين الفقراء العطشى لمعانقة الكرامة.
اليوم أفكر؛ ماذا لو كانوا قادرين؛ أولئك الفاشيين الحمقى، على استبصار حقيقة ما جرى؟ هل كانوا سيقدمون على بتر اليدين، والاحتفاظ بهما، مهما كانت الدواعي الأمنية؟
لقد ذهبوا جميعهم الآن، ووحدها بقيت يداه، زهرتين مرفوعتين على قبر الحلم الممتد فوق الكوكب، كظل داكن، أو كشبح يجوس، هازئا من قاتليه، عبر ليل سحيق للإنسانية، عابر لوجوده كإنسان!
النبيُ المنبوذ
قد لا أتبع من الأنبياء والرسل إلا أولئك المنهزمين المنبوذين، ذلك أن الحقيقة، باعتقادي، لا ترضى بقربانٍ يقل عن كامل وجود وذات عاشقها، كامل الروح والجسد، الضمير والدم، العقل والحواس، كبرهان صدقٍ، ودليل تكريس. أمَا هؤلاء الأنبياء المنتصرون، فقد استبقوا لأنفسهم، وللتاريخ الإنساني بطبيعة الحال، بعضاً من ذواتهم، ضانين بها على الحقيقة، المجردة المطلقة، ليؤسسوا بعنفوانها الدول والممالك، ليقيموا بصخرها النُصب والمعابد، وليسطروا بحبرها الكتب والصحائف؛ تلك التي سيحاولون أن يبيعوها، جميعها، للبشرية كتجليات مقدسة لحقيقة بشروا بها، يوماً، ثم راحت تنأى عنهم، بعيداً. أجل، سينتصر الأنبياء، فتنهزم النبوة، وسيُخلِد التاريخ الرسل، لتنسرب رسالاتهم وتضيع في حمأة المجد ومستنقع الخلود!
ماكبث.. أو غواية القدر
ماذا لو أن ماكبث، وخلال رحلة عودته، عقب انتصاره المؤزر على الغزاة النرويجيين، صُحبة صديقه وقرينه ونقيضه بانكو، لم يلتق، أبداً، الساحرات الغامضات الثلاث اللاتي أججت نبوءتهن، المغوية المثيرة والمهلكة، كل ذلك الطموح المخضب بالدم في روحه، لتبدأ حركات وفصول المأساة الخالدة التي نعرف تفاصيلها ومآلاتها، جميعاً، الآن؟
هل كان ذلك ليغير شيئاً من ترتيبات القدر؟ هل كانت الأشياء والأحداث لتتبدى لنا ساعتها على نحو مغاير لما عرفناه؟ وهل ثمة إمكانية لافتراض أن عزم وإرادة الأقدار يمكن لنا، أصلاً، أن نتدخل فيهما، ولو بالتخيل والافتراض، لحرف مساراتهما المحددة، على نحو جبري وقطعي، سلفاً؟
قناعتي الذاتية أنه حتى ولو لم يلتقِ ماكبث ساحراته الشريرات، فإنه كان سيتعثر في نبوءتهن القاتلة، بطريقة أو بأخرى، وسيمضي ليعانق مصيره، الملطخ بدم دانكن وبانكو وعائلة ماكدوف وكل كل الآخرين، وصولاً إلى مقتله عقب انهيار وهمه بحصانته الذاتية وفقاً لتفاصيل ذات النبوءة.
إن الشر الذي تسلم ماكبث رسالته، الملغزة الساحرة، من عجوزات القدر الثلاث الدميمات، لم يكمن، بالأساس، في أي مكان آخر سوى قاع روحه بالذات. ومن ثمْ، فما كانت الساحرات غير صورة روحه المخبوءة، وهذا ما أدركه بانكو، منذ البداية، وحذر منه. من جهة ثانية، فإن شكسبير، وعلى عادته دوماً، أحب أن ينبهنا إلى غرابة، بل وتناقض، شفرة خطابات القدر، الصميمي والمقصود، وإلى الخديعة والطبيعة الهزلية المتجسدة في سقوطنا، الحتمي، في شراكها؛ أعني سقوطنا الأخلاقي والتاريخي، على حد سواء!
هل يعني ذلك أنه لا مهرب للإنسان يُرتَجى من شباك خديعة القدر وسخرياته؟
يبدو الأمر كذلك، وسيتأكد لنا هذا الإدراك حين نتعلم أن نفكر في هذا القدر لا كنعمة، ولا كلعنة، تحيق بنا، وتتنزل على أم رؤوسنا، من سماوات ما بعيدة مكفهرة صامتة ومخيفة، بل كخيوط نسيج شبكة عنكبوت، لا نهائية الأبعاد، تنسجها مليارات المليارات من الإرادات، الصغيرة المفردة المعزولة والمتداخلة المؤتلفة والمتضاربة المحبة والحاقدة الخيرة والشريرة، لكل ما نرى، وما لا نرى، في سجننا الكوني الرهيب ذاك!
هزلية اعتيادية
في صحبة الموت اليوم بطوله، من سيدي بشر إلى مقابر العائلة بقلب الدلتا. لم أسمعه يبكي، ولا يضحك، ولا يئن، ولا حتى يتنفس، بل يحضر بوجوده الكثيف الثقيل المهيمن، وحسب. أتعجب ممن يدعون القدرة على التحاور معه؛ فكيف يمكن للمرء أن يتحاور مع من لا يسمع ولا يرى ولا يتكلم، حتى وإن حضر بجلاله وعظمته وقدرته الهائلة؟!
أول خطوة على الطريق: أنت ميت ، وهم ميتون.
الخطوة الثانية على الطريق: ليس في الموت ما يخيف، فقط رقاد طويل، بلا أحلام.
ثالث الخطوات على الطريق: الحلم درب الموت، ورهانه، وانتصاره الأجلى.
خطوة رابعة على الطريق: ستثقلك الأحلام، حتى تعاف النوم، خشية أو تمرداً.
خطوتك الخامسة على الطريق: لا حلم يبقى، لا موت لا يموت، ولا طريق بالمرَة!
مسألة منظور
أجل، إنها مسألة منظور!
أنْ تعتقد بمركزيتك الوجودية، وأنْ تحيا الإحساس بدوران كل الأشياء والبشر حول ذاتك رغباتك انتصاراتك احباطاتك، وأنْ تستميت في الحفاظ على بقعة الأرض، الضئيلة التي تقف عليها، ثابتة مستقرة تحت قدميك، وأنْ تقاتل، للنفس الأخير، كي لا يسلبك أحدٌ نصيبك المرئي من السماء، الشاسعة الزرقاء السوداء المتلألئة أو المطفأة، فوق رأسك، بدعوى أنهما معاً – أي الأرض والسماء – عالمك وحدودك الموهوبة لك بالميلاد؛ فذلك كله مجرد مسألة منظور. أمَا لو قُيض لك أن تنقل قدميك وتحركهما، قليلاً، بعيداً عن ذلك المربع الأول الأثير، ولو أُتيح لك نقل بصرك باتجاه ما هو أبعد، إلى حد بسيط، من تلك السلخة الرفيعة من السماوات الفسيحة من فوقك، لأدركتَ، مدهوشاً وربما مصدوماً، مقدار تفاهة وضآلة ومحدودية عالمك وحدودك، ذلك الذي كنتَ تحسبه كل العالم، وتلك التي كنتَ تظنها كمال الحدود، تماماً كما لو أمكن لنملة، تزحف بتؤدة عند شق الحقل، إبصار، بكيفية ما، شساعة ذاك الحقل، والحقول المتاخمة له، وكل الحقول والمروج، القريبة والبعيدة، على سطح هذا الكوكب الذي توهم أسلافك من البشر أنه مركز الكون، قبل أن يفيقوا، مرغمين صاغرين، على حقيقة كونه محض ذرة غبار تافهة، عالقة في شعاع شمسي لنجمٍ، متوسط الحجم، ملقى به على أطراف مجرة عادية تضم أكثر من مائة مليار نجم غيره، وأنْ المجرة نفسها ليست أكثر من طرف عنقود صغير يضم بلايين البلايين من المجرات، الأعظم والعملاقة، السابحة في نسيج كوني، لا نهائي الأبعاد ولا يتوقف عن التمدد، يعتبره العارفون من العلماء تجلياً واحداً لكونٍ متعدد الأبعاد الزمكانية، يحايث ويوازي ويتداخل، في ما لا نعرف حصره، ولا طبيعته، من الأكوان البديلة والمتعددة والموازية، والتي تشكل، جميعها، وجوداً رهيباً غامضاً لا محدوداً، عشتَ ترعى، بداخلك، وهم منظورك، الصبياني الأخرق، بمركزيتك فيه!
لا تمُتْ إلَا شاباً!
دائماً ما تسمعهم يرددون القول إن الحياة قصيرة.
من جهتك، لا تملك إلا أن تستغرب قولهم هذا، وتجهد كي تبدو متفقاً معها، في آن.
كيف ولماذا تبدو حيواتهم، في أعينهم، قصيرة إلى ذلك الحد؟ فيما تراها أنت أطول، بكثير، مما ينبغي لها أن تكون، من قدرة أي أحدٍ على استنفاد ما تهبه اللحظات والساعات، الأيام والسنون، من أفراح وأتراح، من وعود وخيبات، من انتصارات وانكسارات؟
ربما ثلاثون سنة، إذا ما عيشت على نحو صحيح، تكون كافية ووافية، شريطة أن يتعلم المرء فن ثقب وجوده رأسياً، كما يتعلم، تلقائياً وبالميلاد، فنون التمدد الشخصي أفقياً. أن تثقب وجودك رأسياً يعني أن تمتص، بهدوء وروية وتلذذ، كل لحظة تمر بها كأنها عمرك بكامله، لأنها، وفي حقيقة الأمر، هي عمر كامل كامن، أو هي أفق لا يُدرَك ولا يُترَك، ومن ثَم فإن القارات العذراء، المخبوءة في تضاعيف هذه اللحظة، لكفيلة بأن تُحيل امبراطوريات الإسكندر وقيصر وعبد الملك بن مروان إلى بضعة أقاليم قروية فقيرة، أو مجرد بلدات بائسة صغيرة، قياساً إلى ممالك وعود اللحظة العميقة؛ ممالك الصحة والقوة والشباب، والأهم من ذلك كله، ممالك الآفاق التي لا تُحَد، لأن بصرك في الثلاثين حديد، وفي الستين رميد!
أتراكسيا
في الحياة، كما في الفن، ثمة اختياران وجوديان أساسيان: المأساة أو الملهاة، التراجيديا أو الكوميديا، وبمعنى آخر المندبة أو المسخرة.
فيما يخصني، وبكل أسف، وبعدما تيقنت أنه ما من جدوى بعد لأي أسف، فقد أفنيت السنين والأيام والساعات الممنوحة لي، في الأغلب الأعم، ضمن نطاقات الاختيار الأول. فلأسباب، تظل مجهولة بالنسبة لي، فقد تبنيت وجهة النظر، الصارمة الساذجة، التي تعتبر الحياة مهمة عمل ورحلة كفاح، مثيرة ومتواصلة ومقضي عليها بالحبوط والإخفاق، باتجاه تحقيق ما لا نهاية له من الأهداف والغايات: النجاح، السعادة، الحب، اللذة، المجد، الترقي الإنساني، الحرية، الخلاص من الشقاء، الإفلات من قبضة الضرورة….إلخ.
وعلى الرغم من وقفاتي المتكررة، بين وقت وآخر، لالتقاط الأنفاس، ومراجعة خرائط الطريق، والتساؤل عمَا إذا كنت أصبت الاختيار، أو ضللت السبيل للخلاص المنشود، فقد بقيت أجدني راجعاً، وبمنتهى الاندفاع والحماسة، لاستكمال المسير، متعللاً بأن الأمر قد قُضي منذ زمن بعيد، ربما منذ قبل ميلادي الشخصي، عبر الجينات الموروثة، إنْ بيولوجياً أو ثقافياً، وأن الموت في قلب طريق، ولو كان يفضي للتيه، لأفضل من القعود والعطالة على المفارق الحاسمة، وأن الحياة حركة، والحركة قادرة، دوماً، على صنع الحياة، تصويبها وتدقيقها، وصولاً بها إلى غاياتها العظيمة؛ تلك التي لم أدرك كنهها يوماً.
أمَا في ليالي السهر والأرق الطويلة، وكذا في اللحظات الفارقة بحياة المرء، حيث يلقى نفسه، فجأةً ومن دون استعداد مسبق، عارياً من كل المتاريس، العقلية والوجدانية والمجتمعية المسبقة، ومنكشفاً، كليةً، بمواجهة ذئاب الحقيقة والسؤال العاوية بسهوب الروح التي تتلاعب بها رياح عاتية، تصلصل في أعطافها قهقهات هازلة ساخرة، في مثل تلك الأوقات، الحرجة المحرجة، فكثيراً ما ضبطت ذاتي راغباً في التملص من كل ما اعتدتُ أن أحسبه ذاتي، حالماً بترك كل شئ، وأي شئ، الآن، في هذه اللحظة بالتحديد، والفرار بعيداً بعيداً، حتى من دون إلقاء نظرة متهكمة، أو متحسرة فلا فرق، على ما أهجر، على كل ذاك الذي كرست أيامي، بطولها، لتثبيت أركانه، وتشييد بنيانه كي لا يهجرني هو.
وهكذا، أظل أقطع الأيام والليالي، منقسماً وموزعاً، بين المادية الجدلية والتاريخية صُبحاً، والرواقية والبوذية مساءً، بين ماركس ولينين نهاراً، وماركوس أوريليوس وسيدهارتا ليلاً، فهل لإنسان، بائس حائر، أن يقدر على مواصلة العيش، على هذا النحو الشقي، بقلبين في صدره؟ هل يُعقل ذلك؟ أو هل من ضرورة أو معنى لذلك، أصلاً؟
ربما، ذات صباح، بينما أضرب، على غير هدى، بتيه الطريق، بطريق المتاهة، ألتقيه صدفة، فقد حدثتني الكتب القديمة عن أنه كان يسعى، بذات الدروب، ناشداً الأتراكسيا. نعم، فخلافاً لجميع من ذكرت أسماءهم هنا، لم يكن أبيقور ليكف عن السعي، لحظة واحدة من عمره الطويل، خلف تعطيل كل نزوع إلى السعي بروحه، ولا ليطلب، لنفسه ولإخوته البشر، شيئاً أو رجاءً، من إنسان أو طبيعة أو إله، سوى اجتثاث جذور كل مطلب بداخله. فهل أجدها يوماً ما؛ تلك الطمأنينة، السكينة، الفراغ، الأتراكسيا؟
الجمال
كم أنَ الجمال مُذِل! فهو، إذ يمنحك الرغبة في مواصلة الحياة وتذوق لذة العيش، فإنه سرعان ما يضعك بمواجهة الحقائق الأكثر رعباً في الوجود؛ سرابيته، تفلته، تأبيه على الأسر، واندياحه بفعل الزمن. إن كل ما صيغ على مقياس الفرح ليس أكثر من وهم يقطر عذوبة ودماً، وارتقاب ما لن يكون!
انتصار
لا يستهدف الجمال إلا ذاته، وهو إذ يشمخ بذاته، مناطحاً ومتحدياً، فكرة الخلود، فإنه يدرك حتمية انتصاره النهائي، في هذا الصراع العبثي المتطاول، ولو عبر التحلل والاندثار والتلاشي؛ انتصار تحققه فكرة الجمال بذاتها لذاتها، ومهما غابت تجلياتها العيانية والزمانية!
المعنى
ثمة مستويان للنظر في وجودنا الشخصي، العابر، خلال رحلة بحثنا عن معنى هذا الوجود:
الأول: ذاك المستوى التاريخي، الذي يموضع وجودنا في سياق زماني-مكاني محدد، حيث يتواصل الوجود الشخصي لستين سنة مثلاً (أكثر قليلاً، أقل قليلاً) يضطرب عبرها سعينا، اللاهث المحموم، لمطاردة مباهج النمو والتفتح (الثروة، الحب، الأبناء، المجد، النجاح، الحرية….إلخ) وهو ما نفلح في اقتناصه، وتجربة الفرح به، أحياناً، والطمع الساذج في تأبيده، وهو ما نخفق في ضمانه، دائماً، لكن، وبرغم ذلك، ربما استشعرنا أن لحياتنا معنى يتحقق في، وبالضد مع، حتمية الموت ويقين عرضية ذلك الوجود التاريخي لذواتنا العابرة.
والثاني: ذلك المستوى الأنطولوجي، الذي يموقع وجودنا في سياق كوني لا نهائي، حيث يبدو هذا الوجود كقطرة، ضئيلة تائهة، في محيط بلا شواطئ، مترامي الأطراف، منفصلاً عن أية أبعاد زمكانية، وملقى به فوق ذرة غبار تافهة، تسبح في فلك نجم متوسط، يقعي عند طرف مجرة عادية، تماثل بلايين البلايين من المجرات، التي تتناسل كالعناقيد السربية، في كونٍ لا يعرف لكينونته من قانون سوى التمدد، كونٍ غير مبالٍ، ولا منتبهٍ أصلاً أو معنيٍ بالمرَة، بذواتنا السرابية، ولا بعطشنا الحارق للارتواء بعذب المعاني.
والسؤال الذي يفرض نفسه، وبإلحاحٍ، الآن:
هل ثمة معنى، بأي معنى، للبحث عن معنى؟!
اعتقاد
اعتقدتُ، دائماً، أنه ليس ثمة ما ينبغي على المرء الخوف منه أكثر من البشر. وبمواجهة الكوارث الطبيعية، مثلاً، أو أعتى الضواري والكواسر بالمملكة الحيوانية، كذلك، يبقى الإنسان، بالنسبة لي، هو التهديد الأكبر، والخطر الأعظم، لا على مستوى الوجود البيولوجي والحيوي فحسب، بل على صعيد الوجود الروحي والأخلاقي، وهذا هو الأنكى والأشد مرارة. بطبيعة الحال، لن يرضى عن كلامي، في هذا الشأن، أولئك الطيبون الرحماء والخيرون من بني البشر، غير أن هؤلاء، بالذات، يظلون من أخافهم، أكثر من غيرهم، من نسل ذلك القرد العاري الذي كان يوماً ما، ولا يزال، جداً أعلى لنا جميعنا. نعم، وكما يقال، فإن الطريق إلى هلاك الإنسان الفرد مزدحم، عن آخره، بالصالحين المُصلحين وذوي النوايا الحسنة ممن لن يتأخروا، أبداً، عن غمرك بالنصائح وهم يدفعونك بالمناكب، وربما بالمراكيب، عن مواطئ أقدامهم ومرافئ سفن أحلامهم. وبما أني قد انتهيتُ، تماماً وبلا رجعة، عن اقتراف حماقة إسداء النُصح للآخرين، فلنفسي، وحدها، أتحدث عن تراجيديا دوستويفسكي وتعقيد بروست، عن مرارة أحزان تشيكوف الشفيفة وحقد موباسان وولعه بالانتقام، عن هزل كونديرا الموجع ودقة وصرامة توماس مان الملتاثة بعدمٍ عميق الغور لا تُسبر آباره الشافية السامة، أو، وبالأساس، عن إخفاق فان جوخ في أن يغدو مجرد رجلٍ، آخر، يُضَاف إلى مئات الملايين من الرجال الصالحين لهذه الحياة!
البحرُ.. البحرُ
لا تُشيَدُ المرافئُ لاستقبالِ الواصلين، بل لتوديعِ الراحلين. اليابسةُ جنةُ عدن الأوهامِ والميثولوجيا الرخيصة، أمَا البحرُ فسكنُ الأحرارِ ومُستَقرُ أبناءِ الخطرِ والحلمِ العنيد. فطُوبى لمنْ أسلمَ محراثَه للصدأ، وامتشقَ المجذاف! طُوبى للتائهين هُناك! أبداً.
اللعنةُ على البيولوجيا!
أقرأ في تاريخ الجنس البشري لأوقن أن خطأً تطورياً، فادحاً ومأساوياً، قد وضع ذلك السعدان الخطر، المنتصب على قائمتيه الخلفيتين، على قمة مسارات التطور الحيوي فوق سطح هذا الكوكب التعس، فألعن البيولوجيا!
عامٌ آخر
“إلى صفاء”
اليوم، ونحن نفتح نافذة، صغيرة أخرى، على عامنا الثالث بعد الثلاثين معاً، أعرف أن ما مضى لا يساوي، بحالٍ من الأحوال، قرابة ثلث قرن من الزمان، وأن تلك الحسابات الكرنولوجية محض خدعة نسعى، عبرها، لتمويه خيبتنا البشرية في إدراك معنى الزمن وطبيعته السرية. نعم، أعرف أننا، من قبل تلك السنين الثلاث والثلاثين، كنا دوماً معاً، وأننا، من بعدها، نبقى دوماً معاً، وأن أبدية، لا أقل، يمكن بها حساب هذا الرباط الذي يشد روحينا وجسدينا لبعضهما البعض. اليوم، ألقي بنظرة إلى الوراء، قاصداً معاينة الأمام، حيث لا أمام يجئ إلا من رحم الوراء، حيث لا وراء إلا بعض ذاك الأمام، أو حيث ينتفي كل وراء وأمام فلا يعود، هنالك، سوى لمسة يدك الطيبة، نظرتك الحنون، وكلمتك، المشجعة المحبة الداعمة، تحرضان قلمي على اجتراح الأمل بقلب الألم. أجل، اليوم، وحين رحنا نتناول إفطارنا البسيط، من الجبن قليل الملح وحبات الزيتون الأخضر وكوبين من شاي أسود مغلي، مكررين إبحارنا، الصباحي المعتاد، صوب الخريف الأخضر، على صوت فيروز الآتي من إذاعة الأغاني، فأسألك سؤالي، المعهود، عن رسالة صوتية جديدة من الحفيدة، ثم نتسابق، في نفسٍ واحدٍ، لنستعيد نتفاً من ثرثرتها، العابثة البهيجة، ولنجدد العهد، الذي طالما حاولنا أن نلزم نفسينا به طوال العامين الماضيين، فندعْ الوجود يجري في أعنته، متحررين من كل رغبة، رومانسية قديمة، في ضبط مساره، تصويبه، أو تدميره، أقول اليوم، أفهم، وإن متأخراً كثيراً، أني ربما ما كنتُ، يوماً، معنياً، حقاً، بهذا الوجود، في ذاته، وأن غاية ما عشت أنشده هو وجودك أنتِ، لا غيرك، بقلب ذاك الوجود، وأنه ما من ضرورة، بالمرَةِ، بعد للتعلق بأهداب الزوائد والنفايات.
فكل عامٍ وأنتِ هنا يا صديقتي. على أقل تقديرٍ، واتساقاً مع أنانيتي، الجندرية البائسة، أُضيف طالما كنتُ أنا هنا، كي أستطيع مواصلة الطفو!