التقينا في مرسمها، وأذكر أنه كان معنا عدد من الكتاب والمثقفين الكبار، ومنهم الناقد محمد دكروب، والروائية علوية صبح، وفاجأني بجماله الإنساني الكبير، صحيح أن شعره فيه وحشية، لكنه كشخص خال من الوحشية تماماً، وقد أسمعني في تلك الليلة من ذاكرته قصيدة “أنت الوشم الباقي”، ويبدو أنه قرأها ليحييني، وكانت تحية فوق العادة. بعدها بدأ الحضور يراقبوننا، ولاحظوا أننا لا نُكمل جملنا، كأن كلاً منا يفهم ما يقوله الآخر بدون أن يكمله، وقد أخبروني بذلك بعد اللقاء.
وقفنا على باب المرسم، وقال لي كلمات لا أزال أذكرها بحذافيرها: “أتمنى أن تكون صورتي التي رأيتني عليها كما تخيلتها”. كان أنسي الحاج رئيساً بتحرير جريدة “النهار”، وفي لعبة من ألعاب الصحافة قدم استقالته منها، وكانت جريدة “الأخبار” اللبنانية على وشك الصدور وقتها، برئاسة تحرير جوزيف سماحة، حسبما أذكر، وعرفنا منه وقتها أنهم طلبوا إليه أن يكتب صفحة أسبوعية. كان يستشيرنا في ذلك، وقد ظل يكتبها بانتظام حتى قبل وفاته بشهر.
أريد أن أنوه إلى مقالته الجميلة في 25 يناير عن الربيع العربي. أهداها إليَّ قائلاً: “إلى عبدالمنعم رمضان بالطبع”، وقبل أن يموت بمدة وجيزة كتب سلسلة من المقالات بعنوان “حميمية”، يودع فيها أصدقاءه ذاكراً إياهم بالاسم، وخصني بلقب أحبه هو “الشقيق المصري”.
لقد اتفقت في فترة ما، كان فيها أحمد مجاهد مسؤولاً عن سلاسل النشر بهيئة قصور الثقافة، على أن نطبع أعماله الكاملة، ولكنه رفض خوفاً من أن يتم تشويهها، بسقوط مقاطع أو بحذف أخرى أو بأخطاء نحوية وإملائية، ولكنني لكي أطمئنه اقترحت عليه أن نصوِّر النسخة اللبنانية تصويراً، أي أننا لن “نجمع” مجدداً، وهذا هو ما سيضمن عدم تشويه الأعمال وصدورها بالشكل الذي يروقه، ووافق، على أن يتنازل عن حقوقه المادية أسوة بما فعله أدونيس وسعدي يوسف الذي كنت وسيطاً بينه وبين الهيئة العامة لقصور الثقافة، ولكن مع الأسف لم تصدر تلك الأعمال. أقصد أعمال سعدي. وعودة إلى أنسي أرسل إليَّ خطاب الموافقة والتنازل عن المقابل المادي، وصدرت الأعمال في ثلاثةأجزاء حسبما أذكر، ثم حُجبت، بسبب وشاية أحد العاملين بالمخازن الذي قال لرئيس الهيئة وقتها إن هذه الأعمال تحتوي على عبارات مسيئة للذات الإلهية وللأديان وستفتح عليك أبواب جهنم، ولكن لحسن الحظ أن أحد الأصدقاء شاهد تلك الأعمال في معرض القاهرة للكتاب الماضي، ما يعني أنهم قرروا الإفراج عنها مجدداً.
هذه العلاقة لا يمكن نسيانها، وهو دون كل الشعراء العرب بالإجماع، لم يسع أبداً إلى جائزة أو سفر أو شهرة، وكان إحدى السماوات التي تقويني على ألا أتكالب على مثل تلك الأمور، وهذه السماء سقطت برحيل أنسي الحاج.