أنا الرصاصة… وهذا موتي

mahmoud fahmy
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمود فهمي

1

لم يكن يفكر في شيء مهم، مجرد صباح عادي آخر، ربط ربطة عنقه أمام المرآة، عدّلها للمرة الثالثة، على الطاولة إلى جواره كوب شاي شرب نصفه، في الغرفة المجاورة، طفل صغير ينام إلى جوار أمه، يتقلب، تعبث أصابعه الصغيرة بوجهها، فتبتسم وتواصل نومها.

أطلّ من النافذة قليلاً، تنفّس بعمق، سمع صوت لم يفهمه فى البداية، تغير كل شيء في جزء من الثانية، التفت برأسه فجأة، وعيناه اتسعتا، كما لو أن الحقيقة التي لطالما تجاهلها قررت أن تزوره أخيرًا.

2

مابين شرارة وضغطة إصبع ولدتُ، لا من رحم بل من نار ودخان، لا صرخة بكاء لي، بل ضجيج انفجار، أنا الرصاصة، ابنة الفولاذ، طفلة البندقية، روح صامتة خلقت لتُنهي الأرواح، لم أطلب هذا المصير، لكنني أعرف أن هذا ما خُلقت من أجله، أنا هنا في الظلام، أعد أنفاسي المعدنية في الفراغ، مللت الانتظار الطويل، أنا هنا منذ أيام لا أعرف عددها، كل ما أعرفه وما أحياه هو الانتظار، انتظار إصبع يد لشخص لا أعرفه ينزع عني السكون ويقذفني إلى الخارج.

 اليوم، بعد شهور من الانتظار في قلب بندقية باردة، جاء وقت ولادتي، صوت الزناد شدّني كأن أحدهم حرّرني من سجن أبدي، خرجتُ من الظلام الذي لفني لشهور إلى النور، لا بطولة هنا ولا مجد، لست رصاصة تحرير أمة ولا رصاصة فى معركة شرف، أنا أداة فى يد قاتل محترف، قناص لا يسأل، لا يتردد، لا يتذكر ضحاياه.

الانفجار دفعني إلى الأمام بسرعة جنونية، وكأنني سهم من الجحيم أبحث عن قلب كي أخترقه، لا أعرف السبب الذى من أجله انطلقت متجهة إليه، لا أعرف ما الذي بين من أطلقنى وبين الهدف، مثل هذة الأسئلة لا تدور برأسي، أنا مثل جندي أؤدي مهمتى بإخلاص، أنا لا أختار الهدف، لستُ سوى أداة في يده، هوالقاتل من يختار ضحاياه، هو من يملك إرادة القتل.
عندما انطلقت أحسست بشىء يشبه الوداع كأن الحديد يودعني، كأن البندقية تتنفس أخر أنفاسها، شعرت بالهواء يغمرني بلطف بينما كنت أمزقه، كل شيء مر بي بسرعة الضوء السرعة شيء مخيف، حتى لمن صُنع ليكون سريعًا.

كنت أسمع همس العالم، نعم أسمعه رغم هديري، أسمع ضحكة طفل في حضن أمه، موسيقى من نافذة مفتوحة، أشم رائحة ورود على أفريز الشرفة المجاورة، قبل أن أعبر النافذة شعرت بقطرات مطر خفيف تتساقط، كل هذا سيمضي، كل هذا سينتهي، كل هذا الجمال سأغادره بعد لحظات، وللأسف لا أملك التراجع.

 كلما اقتربت كان وجهه يكبر، وجه من كُتبت نهايته باسمي، لم أكن أعرفه، لكنني كنت ذاهبة إليه بلا تردد كأنني أعرفه منذ زمن بعيد، هو هناك إلى جوار النافذة، يضبط ربطة عنقه، واقف، لا يزال لا يعلم أنني في طريقي إليه، لكن فى لحظة خاطفة رأيت عينيه تتسعان كأنه فى تلك اللحظة قد أدرك أن الموت قد أطلق، وأنه قادم نحوه بسرعة لا يمكن إيقافها، كنت أقترب منه أكثر، أسمع ضربات قلبه، ليس هذا وهمًا أو مجازا، كنت قريبة بما يكفي لأشعر بها.

غريب ما يحدث، لم أكن أتوقعه، كيف يمكن لشيء صُنع للقتل أن يشعر؟ لكنني فى تلك اللحظة شعرت، كل نبضة تصرخ لا، كل ثانية تتوسل ليس الآن، لكني لا أسمع توسلات، أنا الصوت الأخير، الصوت الذي لا رجوع بعده.

 أقترب أكثر، هو لا يتحرك، لا يهرب، لا يختبئ، ربما لأن الموت قادم إليه من فوهة محترف لا يخطئ ولا يُمكن الفرار منه.

مرّت لحظات قصيرة، لكنني رأيت فيها حياةً كاملة، ماضيه، خطاياه، حبّه الأول، ابنه النائم، كذبة قالها البارحة، ومثل كلمة وداع تنغرس فى قلب عاشق دخلت.

ثم، لاشيء، لم أعد أرى، عدت مرة أخرى إلى الظلام.

كل شيء أصبح لحمًا وعظمًا ودمًا دافئًا حولي، دخلتُ قلبه كما يُدخل المفتاح في قفل، سكنتُ هناك، في منتصف القلب تمامًا، فى ذلك الكهف الدافئ الذي خفق آلاف المرات، وغنى، وتألم وأحب، وخان، وغفر.

توقف قلبه عن النبض فتوقف نبضي معه، توقف كل شيء، صوت العالم انطفأ، حرارة الدم حولي بدأت تبرد، كانت تلك نهايته، كانت تلك نهايتي.

لم أعد رصاصة

أنا نهاية

وختام لقصة رجل لا أعرفه، عرفت أنني لم أقتل رجلا فقط بل أنهيت قصصا لم تكتمل، أحلامًا مؤجلة، طفلا لن يستيقظ على قبلة والده، رسالة اعتذار لم تكتب، أنا الرصاصة وقد أكملت مهمتي، لكن لا أحد سيخبركم أن الرصاصة أيضا تموت.

هل كنت أتمنى غير هذا المصير؟ أنا لا أمنيات لي، أنا شيء لا يفكر، لكنني الآن أعي، أعي العدم الذى تركته خلفي، أعي أنني لم أخلق لأفكر، لكن من صنعني اختار لي طريقا واحدا ولم يمنحني فرصة للسؤال.

أنا الرصاصة، وفي كل مرة تنطلق فيها شبيهاتي يصبح العالم أكثر برودة ورعبًا.

 

مقالات من نفس القسم

عبد الرحمن أقريش
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

الحرمان

تراب الحكايات
موقع الكتابة

الجازية