أمينة رشيد: سيد البحراوي.. الصديق الغائب

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

حاورتها: هناء نصير

زوج راحل، وحياة كانت مشتركة مع هذا الزوج، فأصبحت مشتركة مع بعض كتبه ومذكراته، وعبق وجوده الذي لم يخب. ذهبت لأجري حوارًا مع الدكتور أمينة رشيد، أستاذ الأدب الفرنسي بجامعة القاهرة، يكون في القلب من ملف عن زوجها الراحل، الناقد والروائي والأكاديمي، دكتور سيد البحراوي، فوجدت نفسي أفتن بشخصيتها الدافئة، الراقية، شديدة التهذيب والرقة. استقبلتنا، زميلتي المصورة وأنا، دكتور أمينة أسفل العمارة التي بها شقتهما الصغيرة الدافئة في مدينة مبعوثي جامعة القاهرة، حتى تفتح لنا المصعد، فلا نضطر لصعود السلالم للدور الأخير حيث شقتها، على أقدامنا. كنت قد قرأت وسمعت الكثير من بعض المثقفين الذين زاروا الزوجين المرموقين في حياتنا الثقافية الحديثة، عن حميمية هذه الشقة ودفء استقبال صاحبيها. سمعت عن الصالون الثقافي الذي كانا يقيمانه، كما سمعت عن استقامة وصراحة دكتور سيد ودفء وتهذيب دكتور أمينة، وعن صلابتهما في التمسك بقناعتهما.

صعدنا إلى الشقة، فوجدنا شقة تتكون من غرفتي نوم وصالة مواجهة لفراندا جميلة تطل على الحديقة بالأسفل، اتخذت دكتور أمينة من هذه الصالة مكتبة لها. تركنا هذه الصالة خلفنا ودخلنا ، إلى غرفة ثالثة كانت مكتب لدكتور سيد، وفيه مكثنا حتى انتهت الزيارة بعد حوالي ثلاث ساعات.

أول ما لاحظت كان حميمية المكتب، الذي احتوى مزيج من الخشب، الورق، والنحاس. رائحتهم مجتمعين، بالإضافة إلى بعض الفوضى المحببة، مع إضاءة خفيضة وحميمة، كان لها أثر في سريان خدر لطيف يحث على الاسترخاء والسكينة. على الأرفف بعض أعداد من مجلات كلية الآداب، فصول، الرواية، بالإضافة إلى الكثير من الكتب التراثية، والأعمال الإبداعية الحديثة، لعل أحدثها كان ترجمة لرسائل فنسنت فان خوج، بترجمة ياسر عبد اللطيف.

سألت دكتور أمينة عن بدايات علاقتها ودكتور سيد، فحكت لي أن البداية كانت بعد عودتها من فرنسا، التي شعرت فيها بالتعاسة في بداية بعثتها، في ستينيات القرن الماضي. أخبرتني عن صديقتها كاثرين، المساندة لنضال العمال، التي تعرفت عندها على مثقفين يساريين، مساندين للعمال في نضالاتهم، واستمرت علاقتهما حتى الوقت الراهن. حتى أنها، لدهشتي، وعدتني بتعريفي بها إذا ما قدمت إلى مصر.

“من المفترض أن يشعر الناس بالسعادة في مدينة كباريس توصف بسيدة العالم، مدينة العواطف الجميل. إلا أنني كنت أبكي في الشارع، فلم أتعود على الوحدة.”

ساعدها الانخراط وسط هؤلاء المثقفين على احتمال فترة التواجد في فرنسا حتى انتهت من رسالة الدكتوراه التي كتبتها فيما يزيد عن الألف صفحة، وتعد مرجعًا في تأثير الأدب العربي في أدباء أوربا. لكنها بعد استكمال الدكتوراه، حيث العمل الأكاديمي كان جاذبًا آخر، بالإضافة للحياة السياسية الحية التي عاشتها هناك، وحتى بعد حصولها على وظيفة مرموقة في المركز الفرنسي، لم تعد تحتمل الغربة، وقررت العودة إلى مصر.

“أردت العودة لمصر لأنني لم أستطع العيش بعيدًا عن مصر. كما أن الجامعة صرفت علي لأتعلم وأعود لأشارك هذا العم مع طلابي. بالطبع صديقاتي وجدنني مجنونة لتركي هذه الوظيفة المرموقة، والعيش في أوربا، والعودة إلى مصر.

“بعد عودتي، بدأت صداقتي بمجموعة أساتذة في قسم اللغة العربية، وكان سيد يتقدم دائمًا لمساعدتى. كنا نعمل معًا، يساعدني في التعرف على الأدب العربي الحديث وتحسين لغتي العربية التي كانت أضعف من الآن بالرغم من تعليمي لنفسي، وأساعده في اللغات. استمرت صداقتنا لمدة عامين، ثم تزوجنا. حاولنا الحفاظ على الصداقة التي كانت بيننا، لكن الأمور، بطبيعة الحال، تتغير. أذكر أني، بعد ستة أيام من الزواج، أعددت الغداء، وكان مكرونة وأشكال من الكفتة. فإذا بسيد يسألني أين اللحم، فضحكت وأشرت للكفتة. سألني لم أضحك، فقلت له لأن الزواج بداخلك قد ظهر، فخجل قليلًا.”

وتستطرد: “كان سيد يقدرني جدًا، ويحترم عملي، وكنت أحرص على حقوقه كزوج. كنا أصدقاء لعدة سنوات، نعمل معًا، ونخرج معًا. أحيانًا كانت تطرح فكرة الزواج، لكن كانت بعض المخاوف من اختلاف خلفياتنا الحياتية تقلقنا. كنت ابنة لأسرة برجوازية، حتى لو كان أبي محام لم يمتلك من الأراضي ما يكافئ ما امتلكه جدي لأمي، إسماعيل باشا صدقي، وأزواج خالاتي. وكان سيد يردد أنه ابن فلاحين. كان مصريًا جدًا، يعتز بمصريته واستمرار علاقته بقريته. وكان بعض أصدقائه وأساتذته ينصحونه بعدم الإقدام على زواج غير متكافئ، سيفشل بالضرورة، خاصة أني كنت أكبره بخمسة عشر عامًا.”

أقاطعها مستفسرة عما إذا كان ما قرأته صحيحًا وأنه تقدم رسميًا للخطبة، في محبسها عام 1981، ضمن بعض المثقفين والكتاب الرافضين لإبرام السادات لاتفاقية كامب ديفيد، فتأكد كلامي، ذاكرة أنه زارها في سجن النسا، وفي مكتب المأمور، طلب منها الزواج، وألبسها دبلة الخطبة وألبسته دبلته، التي أشارت إليها في أصبعها وقد آلت إليها الآن، وتضعها فوق دبلتها.

“حضر ومعه الدبل، وافقت، ولبسنا الدبل، ولا أدري كيف أنتشر الخبر في السجن كله، وإذا بالزغاريد تملأ السجن. كان ذلك مثيرًا جدًا بالنسبة لي. بعد خروجي من السجن، تزوجنا، وحضر زفافنا الكثير من الأصدقاء.”

في منتصف الحوار تقريبًا، انضم لنا د. أحمد عمار تلميذ وصديق دكتور السيد وزميله في قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة القاهرة، استجابة لطلب دكتور أمينة، ربما للمساعدة في التذكير بما لا تسعف الذاكرة في سرده علي. تبدى لي من خلال الحوار، أن د. عمار كان مؤتمنًا من دكتور سيد على مراجعة وإعداد أعماله الكاملة للنشر في الهيئة المصرية العامة للكتاب، بالإضافة إلى، مذكرات لم تنقح بعد، ولم يحدد الورثة إذا ما كان عليهم استبعاد بعض الأجزاء شديدة الصراحة، والتي من الممكن أن تدخل الورثة في مشكلات قانونية أو غير ذلك. كشف لنا د. عمار عن اكتشافهم أن د. سيد حرص على توقيع عقد نشر الأعمال الكاملة قبل وفاته، حتى يجنب ورثته عناء الإجراءات القانونية.

“لم نكن نصدق أن د. سيد سيموت. كان دائمًا يقول أن الموت قرار الإنسان، فإما يستسلم له، أو يقاوم. قبل شهرين من وفاته، وكان قد حجز في مستشفى قصر العيني الفرنساوي، ذكرته بقوله ذاك، فسكت. علمت ساعتها أنه تراجع عن تصوره، وأن الرحيل يقترب، خاصة مع اعتذاره عن التدريس قبل ذلك بفترة لعدم قدرته.” كانت هذه كلمات دكتور عمار، قبل أن يحدثنا عن صلابة أستاذه وصديقه الراحل في الدفاع عما يراه أخلاقيًا. ومن ذلك مقاطعته لقسم اللغة العربية أثناء تواجد جيهان السادات بالقسم، ومواقف كثيرة وأفكار حول بعض القضايا والأشخاص كان يسطرها سواء في مذاكراته أو في دفاتر عديدة لدى ابنة أخته حاليًا. كما حكى دكتور عمار عن شغف د. سيد لبعض الوقت بتصنيع الشموع، وإعداد أشكال فنية منها كانت من الجودة بحيث أقام لها معرضًا، لكن أحد لا يعرف هل أحتفظ ببعضها، ولم ذهب شغفه بالشموع فجأة.

بالإضافة إلى منجزه الأكاديمي والنقدي والإبداعي، شارك دكتور سيد البحراوي، زوجته د. أمينة أمينة رشيد، في ترجمة عدة أعمال: “عملنا معًا على العديد من الترجمات، كان آخرها رواية بعنوان” ليلي وبريان” لم تطبع سوى بعد وفاته، ولم تصلني نسخ منها بعد. ترجمنا هذه الرواية خلال جلسات عمل استغرقت شهرًا. أقرأ أنا العمل المكتوب بالفرنسية، التي لم يكن سيد يتقنها تمامًا، وأنقل له المعنى شفاهيًا، فيقوم هو بصوغ المعنى بالعربية، ومن ثم أقرأ ما كتبه. وكان دائمًا ما يحلي الصياغة، التي تحمل من روح الأديب بداخله، ولا ينقل المعنى حرفيًا. مر سيد بفترة اكتئاب عقب اكتشافنا لطبيعة مرضه. اقترح أن نترجم عملًا، ربما ساعد ذلك على إخراجه من هذه الحالة، فاقترحت هذه الرواية، التي على الرغم من انتحار بطلها، إلا أن تصوري كان أنه حتى الأعمال غير السعيدة قد تشكل تجربة جمالية تخرج الناس من وحدتها واكتئابها.”

بعد الرحيل، خاصة إذا ما كان إثر مرض مرعب، قد تختلف النظرة للشريك. يذهب أي شعور سلبي قد تخلفه الاحتكاكات اليومية، أو فقدان الشغف للعيش معًا بعد فترة طويلة. كان سؤالي الأخير لدكتور أمينة التي أجهدتها بطول الحديث، عما ترغب في قوله عن رفيقها لمدة تزيد عن ربع القرن، فكان قولها: “أفتقده. ما بقي من سيد، إحساسي أنه إنسان جميل. يعي أشياء رقيقة، حتى لو لم يجد التعبير عنها. كثيرًا ما قال لي الأصدقاء أنني أضعت استقلاليتي، وتحولت لست بيت، لكني احتفظت بقدرتي على العمل. ولقد ساعدني سيد كثيرًا، واحترم عملي، وقرأ كل ما كتبت. كان بيننا حوارًا جميلًا. أنا أحب الوحدة، وظننت في بعض الأوقات أنني لو عشت وحدي، سأكتب أفضل، لكن حتى الآن لم يحدث ذلك.”

كما استقبلتنا دكتور أمينة بحفاوة، ودعتنا بالقبلات وكأننا اثنتان من صديقاتها المقربات. رافقتنا د. أمينة رشيد، الأستاذة والناقدة والمترجمة المرموقة حتى بابها، ودعتنا لزيارتها من جديد مع كتاباتنا التي أبدت الرغبة في الاطلاع عليها.

……………….

*عن مجلة “عالم الكتاب”

مقالات من نفس القسم