سيد إسماعيل ضيف الله
هناك صورة ذهنية في العالم العربي عن الشاعر أمل دنقل باعتباره نموذجًا للشاعر الرافض بل نُسب الشعر إلى مواقفه وطريقة حياته فصار شعره نموذجًا لشعر الرفض، لكن هذا الرافض العظيم كان مرفوضًا بامتياز، وهذا ما أكده لويس عوض – موضحا في مقالة له بعنوان شعراء الرفض – تلك الصلة التي لا تنفصم بين أن تكون رافضًا وأن تكون مرفوضًا. رفْضُ أمل دنقل على المستوى السياسي للخذلان العربي أمام العدو الصهيوني، والاستبداد الوطني سواء كان في عصر ناصر أو في عهد السادات، وكذلك رفضه للسياسات الثقافية التي شردت المثقفين المصريين خارج مصر واحتضنت وسمّنت ضعاف الموهبة شديدي القابلية للذل والخضوع، كل هذا الرفض، كان رفضًا مدفوع الثمن، بمعنى أنه لم يلكن يلعب دور الرافض في مسرحية هزلية، وإنما دفع ثمن مواقفه إقصاء وتهميشًا له إنسانًا وشاعرًا على مدى سنوات حياته.فكان حجب جائزة الشعر عن الشاعر الرافض، وعدم وجود ناشر في مصر يقبل أن ينشر ديوانه”البكاء بين يدي زرقاء اليمامة” وعدم الترحيب به في دولة الأدب الرسمي علامة على اتساق العلاقة بين أن تكون رافضًا وأن مرفوضًا. لكن مساعدة يوسف السباعي له في توفير وظيفة له تكفل له الحد الأدنى من متطلبات الحياة دون حاجة للحضور اليومي للعمل لا يمكن فهمه بمعزل عن محاولة احتواء الشاعر من قبل مسئول ثقافي كفء ذكي، وهو ما جرى مع دنقل وغيره من الشعراء والأدباء. الأمر الذي يجعل لشخص يوسف السباعي في قلوب الكثيرين منهم مكانة خاصة قد تدفع بعضهم للتمييز بين المسئول الثقافي والنظام السياسي الذي يمثله.
أما الصورة الذهنية لدى الكثيرين في العالم العربي عن الدكتور جابر عصفور أنه المسئول الثقافي الذي صعد نجمه بصعود مبارك للحكم فجعل من المجلس الأعلى للثقافة قبلة للمثقفين العرب بل البؤرة العربية المؤهلة لاستضافة كبار مفكري العالم ، وأسس المركز القومي للترجمة ليكون جسرًا بين العرب وثقافات العالم، لكن في الوقت نفسه المسئول الثقافي الذي كانت مهمته تبييض وجه نظام مبارك والصد عنه ضد خصم سياسي لمبارك وخصم ثقافي له شخصيًا ألا وهو الفكر الأصولي والإسلام السياسي. وفي سبيل ذلك، كانت السياسات الثقافية -التي ساهم عصفور في صياعتها وتنفيذها -تستند لنفس ثنائية (الحظر/الحظيرة) التي كان يرفضها أمل دنقل.
جابر عصفور منذ بدايته الأولى كان نموذجًا للإصلاحي ولم يكن يومًا طارحًا لنفسه باعتباره ثوريًا ومن ثم لم يكن رافضا -مرفوضًا، وربما كانت اللحظة الوحيدة التي كان فيها عصفور (رافضًا-مرفوضًا) هي لحظة توقيعه على بيان رفض اتفافية كامب ديفيد والتي نتج عنه أن يكون ضمن قائمة المنقولين من الجامعة لوظائف إدارية بوزارات مختلفة في سبتمبر 1981. وفي هذا السياق كان الرافضون المرفضون يزيد عددهم عن ألف وخمسمائة شخص شملتهم حملة اعتقالات السادات لمعارضي اتفاقية كامب ديفيد، منهم مسيحيون ومسلمون، يساريون ويمينيون، إصلاحيون وثوريون.
في كتابه “أمل دنقل..ذكريات ومقالات وصور” الصادر في عام 2017 عن دار بتانة، يقدم لنا سردًا بالكلمات وبالصور الأرشيفية للصداقة الحميمة التي نشأت بين الثوري عن قناعة أمل دنقل، والإصلاحي عن قناعة جابر عصفور. هذا الكتاب جعلني أتساءل هل يمكن أن تقوم صداقة حميمة بين الثوري والإصلاحي؟وهل ثمة شروط لتلك الصداقة حتى تنشأ وتستمر؟
نشأة العلاقة بين الثوري الشاعر دنقل والإصلاحي الإكاديمي عصفور كانت في سياق هزيمة يونيه 1967، ومن ثم كانت المسافة بين قطب الثوريين وقطب الإصلاحيين غير بعيدة لوجود حلم قومي مشترك يتهاوى، فكان الخلاف المحتمل بينهما حول شخص الزعيم ، وليس حول الحلم القومي كأفق للزعيم ولمعارضيه.
آمن دنقل بالهوية العربية أكثر من إيمانه بعبد الناصر، بل حين مات عبد الناصر كان لسان حال دنقل يقول : من كان يؤمن بعبد الناصر فإن عبد الناصر قد مات، ومن كان يؤمن بالعروبة هوية له فإن الهوية لا ينبغي أن تموت. وفي المقابل كانت قناعة عصفور وطريقة نظرته الأكاديمية لعلاقة الأنا بالآخر تنطلق من تقدير لقيمة التنوع الثقافي، ومن اتخاذ الغرب نموذجًا حضاريًا نحتاج للإفادة منه لبناء الدولة المدنية الحديثة في مصر.
لماذا لم يؤدِ هذان الخلافان حول شخص ناصر ومسألة الهوية بين الحدية والتنوع إلى تعكير صفو الصداقة بين دنقل وعصفور مثلما كان الحال مع كثيرين قاطعهم أمل وهاجمهم لخلافات في الرأي والموقف السياسي؟ لماذا كان عصفور الوحيد الذي أوصاه دنقل بأن يكون أمينًا على الأموال التي تحت مخدته ليتولى أمر دفنه في قبر أبيه دون أن يدفع أي شخص من الأصدقاء مليمًا في مصاريف الدفن والعزاء؟
أظن أن الخلاف كان وقتئذ وطوال حياة دنقل، بين أكاديمي وشاعر ثوري، ولم يكن بين مسئول ثقافي إصلاحي وثوري، وهذا جعل العلاقة بين دنقل وعصفور أشبه بعلاقة أبوية رغم تقارب العمر، فالثوري يشعر بمسئولية أبوية تجاه أكاديمي كفء منكب على الكتب لديه قناعات استقاها من الكتب فأراد أن يأخذ بيديه ليعلمه من مصدر آخر للمعرفة كان دنقل يجلس على نبعه الأساسي وهو نبع المعرفة عبر البشر وليس عبر الكتب، فاصطحبه في شوارع القاهرة وحورايه وطاف به في ليلها ونهارها شريطة ألا يكتب عن شعره، ومن ثم بقى الخلاف غير معلن وغير قابل للتطور ليس بسبب عدم كتابه عصفور عن أمل والاختلاف في الرؤية بين ثوري يلعب دور الأب وأكاديمي يسعى لأن يكون إصلاحيًا في نظام رفض أمل ورفضه أمل.لا أظن أن الصداقة الحميمة كانت ستتوقف لحظة أن تتحول العلاقة إلى علاقة بين شاعر رافض ومرفوض، ومسئول ثقافي يمثل نظامًا كان سيرفضه أمل دنقل حتمًا إن بقى على حاله الثوري ولم تصبه لعنة التحولات الدراماتيكية.
ولا أظن أن كل ما فعله عصفور كمسئول ثقافي من تكريم لاسم أمل بالمؤتمرات والمطبوعات والدراسات كانت ستحفز أمل دنقل لصون صداقة حميمية مع صديقه الأكاديمي القديم إذا ما كان ثمنها تبييض وجه نظام أضاع الهوية التي آمن بها دنقل ومن أجلها كتب الشعر ومن أجلها عاش.





