نهضت من نومى قبل المعتاد, خلعت ما على من ملابس, ارتديت ( المايوه ), أسرعت إليه, قفزت بين شاطئيه, كان باردا ومتوحشا. حذرونا كثيرا من العوم بالنهر, وحموه بالتلوث, ادعوا أنه يأوى تحت نقائه الظاهرى دودا يرعى فيه وقد يتسرب منه إلينا ويرعى بأجسادنا الضعيفة. قفزت, قفزت أيا كان, أخفضت رأسى حتى غمرنى الماء وشممت رائحة الأسماك تسبح حولى, كانت تهرول, يبدو أنها قد علمت بالخبر, فراحت تبحث عن أنهار أخرى تضمها, قد تكون بالخليج أو السعودية! إنها أسماك النهر, تخشى البحار والمحيطات, تعانى فوبيا المناطق الواسعة, إنها طيبة, تفضل حياة الأنهار الهادئة, تخشى لطمات الأمواج, أما أسماك البحار فهى أكثر خبثا وأشد بأسا وقد تلتهمها وتقضى عليها.
لم تكن رائحة أسماك النهر زفرة, لا تصبح كذلك إلا عند خروجها لسطح الأرض. حركت ذراعى مزيحا كتلا من المياه على جانبى شاقا طريقى بين طبقات زرقته الصافية. لامست يدى خياشيم إحداها فاقشعر بدنى, وفرت السمكة هاربة بعيدة عن يدى. طال بقائى تحت الماء ولم أشعر بالرغبة فى الخروج لالتقاط أنفاسى, ظننت أن بمقدرتى العوم لعمر دون الخروج. ولكن, وكنوع من التعود, حاولت أن أطل برأسى فوق سطح الماء, لم أستطع, اصطدم رأسى بسقف قوى! دعكت جمجتى المتورمة ودلكتها برفق فوجدت أننى أتحرك بسلاسة بين ثنايا النهر دون الحاجة لحركات السباحة المعتادة !
ليست المرة الأولى, فقد غيروا مجرى النهر من قبل, أبعدوه عن الأهرامات بعدما كانت تنعكس صورتها على صفحته المترقرقة, لابد وأنه كان مشهدا بديعا, كان سيستأثر به بعض الأغنياء والأوغاد, نعم, إنه الحقد الطبقى.
كررت المحاولة عدة مرات, وأعدت الكرة محاولا الخروج من بين طبقات تلك الزرقة المطلقة ولكن النهر أبى أن يفتح أبوابه لى, أخشى أن يردموا النهر ويدفنوننى فيه, لدى هناك عائلة وأصدقاء, لدى حياة ومستقبل ينتظراننى, لدى حبيبة, ليست بارعة الجمال, ولكننى أريد أن أتزوجها ولدى أموال أريد أن أبددها. السمك يهرب, يهرب إلى أنهار أخرى, إنه لا يحتمل ملوحة البحر, إنه رقيق.
عافرت بقوة حتى أزحت سطح النهر المتجمد وأخرجت رأسى حثيثا من بين تموجاته المتتابعة, خرجت إلى السطح واضطربت أنفاسى قليلا أول الأمر ولكننى عدت لأضبطها مرة أخرى. سبحت, لا أعلم هل كنت أسبح شمالا أم جنوبا, ولكنه كان بعكس التيار, لابد أننى أعوم نحو الجنوب, لا أعلم عن ماذا أبحث. طفت على سطح النهر جثث متتالية تزحف نحوى واحدة تلو الأخرى, جثث رجال ونساء, أطفال وكبار, بيض وسمر, تخللتها بعض جثث الحيوانات,حصان ضخم وكلب مغلوب على أمره. الكل يتجه نحوى وأنا أشق طريقى بينها لعلى أصل إلى شئ ما.
هل سيردمون النهر بجثث الموتى ؟؟
سيردمون النهر ويشقون ترعة بدلا منه, ويملأونها بدماء القتلى, ويمشون فوق الجثث ويصنعون منها الطرقات. ستضخ (الحنفيات) دماء طازجة, سيشربونها ويتمتعون بمذاقها الأخاذ, ستكون بلون عصير الفراولة, عصير الرمان, أو أكثر دكنة. سيشقون أنهارا بأشكال أكثر رقيا ومدنية وحداثة, قد يشقونها على أشكال حروف أسمائهم الأولى أو على شكل جسد لإمرأة لعوب أو على شكل علامة الدولار.
مازلت أسبح بين جثث متتالية, لا نهاية لها, كلما تقدمت تزايدت حتى أننى لا أجد لى بينها مكانا, حتى أنها دفعتنى إلى قلب النهر, لا أستطيع أن أطفو ولا أجد لى مخرجا. الجو بأسفل النهر أفضل من خارجه. سأغطس تحت سطح النهر وسأدفن جسدى تحت أجساد الموتى وأردم بقاياى بمياهه النضرة. سأجلس فوق صخرة مبتلة وأضع رجلا فوق الأخرى وأنتظر, قد ينتفض القرش من مكمنه, قد تأتى الحيتان من أى مكان آخر, قد يخرج يونس من بطن الحوت, قد يحدث أى شئ ويثور النهر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*من مجموعة (فى مواجهة شون كونرى) الصادرة عن دار روافد
خاص الكتابة