صفاء النجار
فى منطقة بعيدة عن قلب المدينة تسكن، الوصول إليها يحتاج إلى دربة ودأب وكأن قدرتك على الوصول لمكانها تحدد بعضًا من سماتك: المغامرة، الشغف، اليقين.. وهى تقريبًا الصفات التى ستجعل نصك جديرًا بأن يشغل حيزًا من زمانها الذى يمتد لأربعين عامًا ومساحتها التى لا تزيد على ثلاثين مترًا.
لا تنبهر الحجرة بما تملك من ماديات فالوصول إليها بالسيارة أشق وأصعب من الوصول إليها بالمترو.. هى شعبية الطابع، اشتراكية الهوى، عريقة الأصل، البساطة سمتها، والعمق مبناها، كأبناء البلد الذين يجلسون على المقهى المقابل لها ويلقون بالأحاجى فى سلاسة ويسر، وهم يطلبون أن يكون شايهم «على مية بيضا» أو «منه فيه».
إنها «ورشة الزيتون» التى يتم فيها تفكيك النصوص وإعادة تركيبها، واكتشاف ما خفى فيها من سحر وإعادة نثر درها، وجبر ما وهن منها، هى لمن يتلمس طريقًا فى عالم الأدب: الباب، الختم، جواز الدخول، شرعية الاعتراف، وهى للراسخين: التكريس والاحتفاء.
ورشة الزيتون ككل ما هو مؤنث: حكمة ورسوخ جدة، وشدة وتحنان أم، ومغامرة وانطلاقة شابة. وهى أيضا ككل مؤنث تزدهر وتشع تحتفظ بحيويتها ورونقها وتواكب كل المستجدات والظواهر والمتغيرات فى عالم الثقافة بفضل مؤسسها وراعيها: شعبان يوسف، صديقى الذى ألقبه بالعراب أو المؤسسة المتحركة على قدمين.
إذا مر بك شعبان يوسف أو التقيت به فى الطريق، فستلاحظ رجلًا يسير دومًا بهمة ونشاط ثانيًا ذراعه اليمنى وحاملًا بين يديه كتبًا وأوراقًا، لا يحمل شعبان يوسف حقيبة على كتفه يضع فيها أوراقه وكتبه، فلا أسرار لديه، ولا شىء يخفيه: آراؤه، انحيازاته، قناعاته. هو دائمًا واضح كنظارته وشاربه الكث.
تأسست الورشة عام ١٩٧٩ بفضل لقاء الشاعر «شعبان يوسف» بالمفكر اليسارى «فخرى لبيب» الذى اقترح على شعبان إنشاء منتدى أدبى.. وبالفعل شرعا معًا فى تأسيس النادى الأدبى الثقافى، أو ما اشتهر بورشة الزيتون، وعلى الرغم من إقامة الندوة فى أحد مقار حزب التجمع إلا أنك لا تلاحظ أى ارتباط تنظيمى بين الورشة والحزب الذى لم يعترض على أى نشاط يقام بالندوة، على عكس الجهات الأمنية التى كانت تراقب الورشة وتستدعى شعبان يوسف لمعرفة ما يدور من خلاله، وأحيانًا كانت ترسل الضباط والمخبرين لحضور الندوة، لكنهم لم يستطيعوا التأثير على ما تناقشه الندوة ولم يستطيعوا إغلاقها بسبب انتمائها لحزب له الحق فى إقامة الندوات والمؤتمرات.
واستطاعت الورشة أن تصمد فى وجه حملة الاعتقالات التى ضربت الحياة السياسية والثقافية فى مصر عام ١٩٨١، فظلت رغم اعتقال «فخرى لبيب» صوت من لا صوت له، ومنبر لكل من طردتهم ولم تستوعبهم الأروقة الرسمية، وكانت المكان الوحيد الذى يعقد فيه ندوات فى القاهرة وسط حالة من الرعب والأجواء البوليسية.
قدمت الورشة وأسهمت فى ثراء الحركة الإبداعية فى مصر من خلال مناقشتها للأعمال الإبداعية لكل الكتاب البارزين على الساحة وأسهمت فى ترسيخ العديد من القامات النقدية فلمعت من خلالها أسماء النقاد الكبار: محمود العالم وإبراهيم فتحى ومحمد عبدالمطلب وسيد البحراوى وصلاح السروى وشاكر عبدالحميد، وشيرين أبوالنجا ومنى طلبة وصالح سليمان وثناء أنس الوجود.
وصارت الندوة عبر مسيرة طويلة الملهمة لكل الأنشطة الثقافية التى تقام فى القاهرة والأقاليم، ورغم ارتباط الورشة باسم «شعبان يوسف» بسبب طبيعة وجوده الدائم وإدارته للورشة، إلا أنه نجح فى يكون هناك فريق عمل يقيم الندوات ويديرها فى غيابه أو وجوده.
عندما أصدرت مجموعتى الأولى «البنت التى سرقت طول أخيها» عام ٢٠٠٤، كنت حديثة عهد بالحياة الثقافية، فلم أكن يومًا من مرتادى مقاهى المثقفين فى وسط البلد، ولم يقرأ لى أحد مخطوطة، فقط كنت أعرف مجلة أدب ونقد من خلال الناقدة الكبيرة فريدة النقاش التى تحمست لكتابتى، ونشرت لى العديد من القصص عبر صفحات المجلة، ومن بعدها تعرفت على ندوة أدب ونقد التى كانت تديرها الكاتبتان: نجوى شعبان وسحر الموجى واشتركت معهما فى تقديم بعض الندوات.. فى ذلك الوقت كنت أسمى نفسى «أليس فى بلاد العجائب»، فقد كان كل ما حولى جديدًا ومدهشًا، كنت كل يوم أتعرف على شخصيات وأسماء، حالة من الانبهار كانت تملؤنى، وكنت أغطى دهشتى ومحاولاتى للاستيعاب والتفاعل بابتسامتى الساحرة حتى إنه يمكننى القول بروح ساخرة: أنا أبتسم إذن أنا أستوعب. فى إحدى ندوات أدب ونقد، وبينما أجلس وسط عدد الحضور وبجوار عدد من الأصدقاء الكتاب- الجدد آنذاك– دخل قاعة الندوة رجل طويل، عريض المنكبين، كث الشارب، يرتدى جاكيت جلد أسود، حدثت همهمة فى القاعة وانتشرت ترحيبات، جلس الرجل على أقرب الكرسى، فسألت الزميل المجاور لى: مين ده؟
فنظر لى شذرًا، وقال لى باندهاش: ده شعبان يوسف، متعرفيهوش.
هززت رأسى نفيًا، أكمل الزميل: متعرفيش ورشة الزيتون؟!
هززت رأسى نفيًا: لا.
يئس الزميل منّى وقال بصبر نافد: دى أهم ندوة فى مصر، والكتاب اللى مايتناقش فيها، كأنه لم يناقش.
– وأنا إزاى ممكن أناقش مجموعتى فى الورشة دى؟
– لا. ده شىء صعب جدًا، وهتحتاجى تنتظرى كتير، إحنا نروح الورشة يوم الإثنين، وتقدمى مجموعتك لشعبان وتستنى الدور.
فى الخامسة مساء الإثنين التقيت ومجموعة الأصدقاء فى محطة مترو التحرير وانطلقنا إلى محطة حدائق القبة، وبعد المترو سرنا على أقدامنا حتى وصلنا مقر الورشة ١ شارع محمد إبراهيم، المتفرع من شارع سليم الأول، كانت الندوة تناقش مجموعة «نقوش وترانيم» للكاتبة مى خالد، قدمت لشعبان يوسف مجموعتى دون كلمة واحدة، وقدم له الأصدقاء كتبهم.
فى نهاية الندوة، أعلن شعبان يوسف عن ندوات الشهر المقبل، وقال: الندوة القادمة ستناقش… للكاتب.. والندوة التالية ستناقش مجموعة «البنت التى سرقت طول أخيها» للكاتبة صفاء النجار وكان أول الطريق…