العربى عبد الوهاب
أكان من الضرورى ملاحقة نصوص الكاتب المتميز “عبدالعزيز دياب”؟(1) فى لحظات مراواغاتها، وألق حضور شخصياتها الهامشية، تلك الذائبة فى ركام تفاصيل واقعها، والساعية عبر تشكيلات جمالية متميزة، من خلال دروب الحلم الوعرة، لتجسد بحضورها المبهج، اتساع القوس، وانحنائه، بين ألق حضورها، وبين وانسحاقها الموجع، حد الغياب.
يقدم معزوفة قصصية موزعة على ثلاث حركات: ( داخل الكادر ـ الحضور والغياب ـ كوكتيل قصصى) خلالها نستبين حركة أناس مصرِّين على خوض غمار التفاصيل، وعبورها، محاولين اجتياز هزلية عوالمها الفنية .. شخصيات يتم تقديمها بشكل كرتونى، يتمتع بقدر من السخرية، أو الكوميديا السوداء، كما اصطلح بتعريفها فى الدراما.. تتشكل خلال مجموعة أطر، أو صور منعكسة على أسطح المرايا. عاكسة لنا فجيعة الغياب .. من يبعثر عوالم تلك الشخصيات؟!!.. ويتركها تواجه مصائرها المحتومة !! .. “يقدم النص السردى للباحث مادة جلية فى تجانسها وشفافيتها وطابعها الكلي العام، تتراءى فيها شروط النص منذ اللحظة التى يلتقط فيها القارئ خيوط السرد ، فيبدأ فى نسجها مع تقدم النص دون اقتطاع مبتسر، أو توقف متعسف، فلا يغيب عنه أولوية الكل على الأجزاء، ولا مرحلية المواقف والعناصر المكونة للنص. ولا يلبث حين يتمثل بنيته الكلية أن يشرع فى تأمل دلالته الشاملة مدركا مغايرتها لمعانى الوحدات المتفرقة ” (2)
- رؤية تحليلة
لعل أبرز حضور للشخصيات هم اللذين يتم الاستعانة بهم فى عدد من القصص مثل الشخصيات الفنية والأدبية الشهيرة، بالإضافة للشخصيات التاريخية، ثم حضور أسماء لأشخاص من البشر العاديين، يرسمهم الكاتب عبر هالة مضيئة، مثل قصص (غسان، وداد أكرم نسيم، أن يكون اسمك عكرمة)، لتدشين حضورهم بشكل أسطورى.
وتعمل الشخصيات الشهيرة فى النصوص كأدوات وجسور بين عالم النص المتخيل، وبين ما خلفته تلك الشخصيات فى ذهن القارئ على المستوى الموروث الثقافى .. تجئ محملة برموزها وفاعليتها التراثية، لتقدم إطلالة جديدة، بعدما قام الكاتب بتوظيفها بشكل يساعد على خلق حالة من الجدل بين النص والقارئ ، كتابة تعكس نمطا من أكثر أنماط توظيف التراث ، ألا وهو تيمة (التناص).
ألق الحضور يتجسد فى إنجاز الكاتب لهذه القصص المتميزة، ويتجلى فى (تيمة الحلم)
أما الغياب فيتجسد فى العديد من التيمات مثل: ( تيمة القهر … التشيؤ/ التبعثر/ التلاشى ).
يتم تقديم التيمات عبر .. ( إستعراض العالم الفنى فى إطار كرتونى، يشتمل على: العالم الغرائبى والمأساوى، وصولا الى اللامعقول).
فى قصة القرصان الأحمر، يتم إنجاز الدلالة عبر مجموعة من الحيل الفنية المستفيدة من تيمة (التناص) ..حيث يتجسد القرصان فى هيئة لعبة صغيرة، يلهو بها الصبى/ الراوى، ويتميز القرصان بالطيبة، حسب منظور الصبى، عكس خلفيته التراثية .. لماذا ، لأنه يراه يبكى بحرقة لهجر حبيبته له؛ وعلى الرغم من كراهية الأم للقرصان، إلا أن الأمل يظل معقوداً عليه فى إنقاذهم إذا حدث السيل، وأغرق الشقة.
يتخفى القرصان وراء عدة أقنعة ورموز آخرها قناع شهريار الذى ينتظر عودة شهرزاد من رحلتها محملة بالحكايات، وحتى عودتها، يضطر الراوى القيام بمهام الحكى بدلا عنها ” لم يعلق القرصان الأحمر مرة واحدة على كلام أمي، هذا لأنه تربية مدارس، ويعرف أنه ربما كان في عداد الموتى لو لم أقم بحكي الحكايات له على ضوء شمعة، أنا أقوم بهذا الدور حتى تعود شهرزاد بجعبتها المملوءة بالحكايات من جزيرة “إسكنتو”، ص11… القرصان الأحمر قصة محملة بالدلالات، يستهل بها الكاتب مجموعته، لتهيئ القارئ لاستقبال كتابة غير كلاسيكية.
يستمر الكاتب فى الاعتماد على (تيمة التناص) فى استعاراته لشخصيات حقيقية، لها إنجازاتها فى حقل الابداع وتعمل فى القصص كأقنعة رمزية مثل: ( بورخيس، سلفادور دالى، كافكا) وجميعهم يحتلون عناوين نصوصهم. فبورخيس يتصدر عنوان المجموعة، ويتذيل ظهر الغلاف أيضا.. فهل ثمة علاقة فنية سوف تتحقق بين بورخيس والكاتب؟ .. بين المعلم والتلميذ، تلك هى العلاقة التى يغلفها القلق، من السقوط فى عالم كاتب شهير.
يغزل الكاتب نصا مدهشا، لا يقل فى روعته عن روائع بورخيس.. ويمثل حضور بورخيس كشفا لمراوغات الكاتب المتراكمةـ فى النهايةـ فيعاقبه بالقذف به فى إحدى متاهاته، والكاتب لا يستطيع الافلات. حسب مسار القصة من قبضة بورخيس، فيستنجد بالقارئ للخروج من متاهاته.
ثمة شخوص فى قصة (ساعة حضور بورخيس) تقوم بتجسيد الحركة الدرامية .. مثل (الراوى، القطة كاتى، الجمجمة، الكاتب).. ومحتوى القصة المطروح، هو استعداد الكاتب لخوض غمار (كتابة قصة جديدة).. فنراه يتهيأ لها بطقوسه الخاصة كمن يستحضر بالبخور وخلافه (جنيا).. فهل يحضر الجنى؟!! وماذا يحدث عند حضوره، ولخشية الكاتب كتلميذ/ من حضور معلمه. يقوم بعدة حيل منها، استحضار شخصية الراوى، وشخصية الكاتب إلى ساحة السرد، وعقد محاورات بينهما، بالإضافة للمحفزات السردية الأخرى، مثل القطة كاتى التى تتقمص فى كل قصة ينجزها الكاتب قناعا مختلفا، وكذلك الحال بالنسبة للجمجمة؛ أما حيلة الكاتب الأخيرة قبل مغادرة السفينةـ حسب نصيحة الراوى.ـ فهى القيام بترك نسخة منه/ قناعه/ قصته، والهروب قبل حضور بورخيس ومواجهته.. لكن لن تنطلى الحيلة التى هيأها الراوى للكاتب للخروج من مأزقه.. ويلحق به الكاتب الشهير/ المعلم ومن ثم يقذف بالتلميذ/ الكاتب، فى إحدى متاهاته.
فى واحدة من أشهر تعريفات القصة القصيرة، أنها: (كذبة متفق عليها) وتمر بين طرفين هما الكاتب والقارئ من خلال نص محتشد بالحيل الفنية التى تسهم بدورها فى إنتاج الدلالة الكلية. وطالما نجح الكاتب فى حياكة أكذوبته باستدعاء شخصية أدبية عالمية، وخلق تناصا فريدا ومركبا بينه وبينها، بين العالمين الفنيين لكليهما.. فالعقاب نهاية مضيئة لقصة مكتوبة بعناية.
وكما يرسم الفنان التشكيلى الأسبانى سليفادور دالى عالمه السريالى، يرسم الكاتب عالمه القصصى فى أطر أقرب للرسوم الكرتونية، ولكى يتمكن من قراءة الشخصيات المحيطة به بنفس رؤى (دالى) يقومان بتبادل نفس القناع.. نفس الأمر عندما يفلح كافكا فى غوايته وسحبه الى إحدى مغاراته السرمدية، نتذكر عوالم كفاكا التى مزجت السريالي بالواقعى، كى يشعرنا بفجاجة العالم وقسوته.
البديع هنا أن الكاتب يستدعى تلك الشخصيات ويقيم معها جدلا دراميا، يسهم فى إضفاء أصالة وعمق للقصص، ولا يسقط فى أحابيل كتابها المشاهير، فيكون كرجع الصدى لهم؛ بل يتمكن بمهاراته، وامتلاكه لتجربة عميقة فى تقنيات السرد، أن يقبض عليها، ويعيد تشكيلها، وتقديمها داخل بناءاته الفنية المستضيئة بهم، والمضيئة بذاتها.. لنضجها وثرائها الدال.
- يقوم الكاتب باستدراج القارئ للتجوال فى عوالمه الغرائبية، عوالمه تبدو فى تفاصيلها الصغيرة، كأنها واقعية، غير أنها فى دلالاتها الكلية تغزل الواقع بأنماط تعبيرية وتصويرية مختلفة.. فى (قصة رقصة الهيب هوب) يستمر الحكى والمزج والتقاطع بين عالمى الحلم والواقع وحينما يتقاطعان يتلقى علقة ساخنة.
- وتنمو العلاقة أكثر فى قصة بعنوان (حلم) ، فلا يجوز إطلاق صفة عجوزـ حسب القصةـ على الرجل، لأنه يمثل أيقونة الفارس فى مخيلة الطفل، فى المستقبل.. لذلك تنتهى القصة بارتداء الراوى قناع (الجد)، كناية عن زئبقية الزمن.. فنلاحظ قيام الطفل/ الحفيد بتشذيب شارب جده، ليشبه شارب الفنان (أحمد مظهر) فى فيلم صلاح الدين الأيوبى، ويحزن جدا لفشله فى تنفيذ عميلة قص الشارب بمهارة، مما يؤدى الى إرجاء تنفيذ ما ورد فى الحلم لمدة شهر.
- فى قصة (صورة الإوزة) يتجادل الحلمان/ أو الرؤيتان.. حلم البنت وحلم الولد.. تبدأ القصة بلعبة تخييلية، سرعان ما تنقلب الى حقيقة (نلاحظ مؤثرات تشكيلية تشير لقصة بطل كافكا الذى أفاق صباح يوم ما من نومه فوجد نفسه، قد تحول إلى حشرة) فى فكرة التحول .. فالبنت قارئة كتاب (ميراث الخسارة) والولد الحالم.. بقطر الندى، القارئ لصور الكومكس والألغاز، يسقط فى بئر أحلامه؛ بينما ترفض البنت أن تقوم بدور الإوزة.. نلاحظ طرحا جديداً يقدمه الكاتب لقضيةـ قديمة هي. حقوق المرأة، والجديد هنا هو الاعتماد على الخلفية التراثية مثل كليلة ودمنة، وألف ليلة وليلة.. فى عرض لوحة تشكيلية، تقع بين السريالية، والواقعية.
- ثمة اشتباك بين عالم الكاتب وعوالم (زكيا تامر وبورخيس ، ويحيى الطاهر عبدالله، خاصة فى مجموعة حكايات للأمير حتى ينام) … كما نلاحظ تنوع الأزمنة.. وإعادة توزيعها فى قصص (حلم).. و(صورة الإوزة)، و(القرصان الأحمر)، و (أن يكون اسمك عكرمة)، و(بورتريه).. كذلك فى قصة (رسائل مخيمر علوان الكاشفة لازدواج الشخصية لدى البطل، ومن ثم تعرية الواقع بصورة هزلية، حين يراسل نفسه، كبطل (ماركيز) فى رواية ليس لدى الكولونيل من يكاتبه.. وبنفس العرض الهزلى يقدم قصة (المهاتما رامز) الطامحة للحلم والبزوغ والتجلى.
- تيمة الحلم تتجسد فى قصص (غسان، وقبعة للكلب بودى) حيث نتابع النهايات الموفقة لهما، عندما تتم مفارقة الحلم للواقع، فى الجملة الأخيرة لقصة غسان.. أن كل ما سبق الاستعداد له، بغية الولوج الى عالم الحلم برفقة غسان، ثمة إشارات لحلم العودة الفلسطينى.
وفى قصة القبعة والدراجة والكلب.. صاروا فى النهاية غير تابعين للطفل فى مفردات حلمه، بل صار عليه أن يتبعهم فى الواقع، ويجرى وراءهم فى الحقيقة ، يجرى وراء حلمه المفارق؛ كما يتم إعادة طرح جدلية الحلم والواقع من زاويا أخرى فى قصة ( حلم).
- تيمة القهر تتجلى فى قصص القسم الثالث (كوكتيل قصصى).. ولكن بدرحات متباينة، وألوان تتدرج من الأسود السرمدى الى الرمادى، وهكذا صعودا وهبوطا.. ففى قصة (اللافتة) تتجلى ملامح ثورة، خبت جذوتها، فتفرق المتحلقون، واختلفت الرؤى، وتضاربت الشعارات.
- ثمة قهر من نوع آخر خلفته البطالة، وأمراض أخرى، فى قصص (مرشد عناوين، بحسها الهزلى الذى ينتهى بمفارقة لاذعة، وحامل القرابين، حيث السلطة فى أدنى تجلياتها/ ساعى المسئول الكبير الذى يخشاه راوى القصة، كتابة تنضح بمرارة واقع تغلفه الرؤى السوداوية.
- ويستمر القهر بضياع سنوات العمر البالونية سدى فى قصة (فرقعة البالونات) وباغتيال الحلم/ البحر للرجل، فى قصة (البحر) .
- وللخلاص من ذلك القهر قد يصاب البطل بفوبيا (الحسد) فى قصة (رجل الرقية) ولا يجد خلاصا لقهره فى النهاية سوى القيام بعمل رقية العالم بأثره.. ثمة هوس منبعه الشعور المكثف بالقهر.. وسعى عبر الكتابة للخلاص.
- فهل يجئ الخلاص المقترح فى قصة (شرط وحيد لرقصة مثالية).. واضح أن تبعثر رجل القصة فى تفاصيل حياتية، تحيل دون مضيه نحو النجاح فى رقصته المثالية، والشرط الوحيد للنجاح هو الخلاص من القهر، لابد من الصعود فوق القهر، ورؤيته من مكان مرتفع، عندها يمكنه أن ينجح فى أداء رقصته المثالية. الارتقاء هنا ينأى برجل القصة عند تشظى روحه وسقوطها فى براثن التفاصيل.
- ملامح أسلوبية
إعتمد الكاتب على أنماط أسلوبية متنوعة فى إنجاز مشروعه الابداعى، جعلته متميزا، وأبانت خصوصية أسلوبه، لأنه أجاد فى إستخدام تقنيات فنية، بلا افتعال، وحسب متطلبات النص، مما ساعد على انتاج المحتوى الفنى لكل نص على حدة، وساهم فى إبراز الرؤية الكلية للقصص.
ومن هذه التقنيات:
- التكرار : تكرار التيمة فى أكثر من قصة من زاويا متنوعة.
- ـ تقاطع الأزمنة: ليس ثمة مشهد ثابت، أو لقطة عبر كاميرا ويتم تعميقها ، بقدر ما يتشكل المشهد القصصى عند الكاتب من خلال بناءات صغيرة من الحكايات التى يتم تضفيرها وغزلها بمهارة فائقة، لتشكل عوالم القصص عبر جماليات فى السرد، والحبكة، والمفارقة، و….غيرها.. كى تنهض الدلالة الكلية.
- التوسع فى استخدام الاستدراك، للحفر بعمق، للقبص على النص والتحكم فى ايقاعه.
- عصرنة القصة: بمعنى اكتساب القصة روح عصرية، تتسم بالحيوية والحركة، من خلال ذكر مواقف وأمثولات من تاريخ الشخصيات، وإستخدام مفردات عامية فى بنية السرد مثل (مُزة، مزز، خِرْع) .. مما يساعد على تدفق وسريان فى موجات من الحكايات القصيرة المتلاحقة التى من شأنها أن تلقى بظلالها على الواقع، وتخرجه من حيز الطرح الساخر/ الهزلى .. إلى إطار من الجدية فى الطرح.. يساعد الكاتب فى إنجاز ذلك الأمر.. الايقاع السريع فى السرد، عبر خلق بانوراما حول الشخصية، أو محتوى النص المسرود.. بتفعيل المؤثرات النفسية، والاجتماعية، والسياسية فى تجسيد شخصيات القصص الكرتونية.
- استدعاء شخصيات فاعلة فى السرد، وحضور مؤثرات أسلوبية لكتاب مشاهير، دون السقوط فى أحابيلهم.
- القصص قصيرة، تتراوح بين صفحة وثلاث وأربع صفحات بحد أقصى، تلك المساحة يناسبها جدا الايقاع السردى السريع ؛ والتفاصيل الصغيرة، تمكنت من بناء عالم فنى متخيل، حول واقع ينضح بالمرارة اللاذعة.
قصص (ساعة حضور بورخيس) تتميز بطزاجة الطرح، لكاتب صاحب تجربة عميقة، تعددت إصدراته السابقة، فى القصة والرواية، تجاوزت الثلاثين عاما.
وتظل هذه المجموعة بزخمها وتوهجها ذات حضور مميز وخاص، فى مسيرة عبدالعزيز دياب الأدبية، لا يقل عن حضور بورخيس العظيم.
………………………………..
1 ـ عبدالعزيز دياب ـ ساعة حضور بورخيس ـ قصص قصيرة ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ 2021م
2 ـ د. صلاح فضل ـ بلاغة الخطاب وعلم النص ـ سلسلة عالم المعرفة ـ العدد 164 ـ الكويت أغسطس/آب 1992.