ألبوم صور

ألبوم صور
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد عبد الدايم هندام

في نهاية النهار، وبعيد آذان المغرب، قبلما تظلم السماء إلا من نجومها وقمرها؛ استعدت الأمهات للرحيل، وجهزت كل منهن أطفالها، أخيرا بعد عناء مع الأشقياء منهم والباكين، والمتسللين تحت الأسرة وفي الشرفة، المتشبثين بالبقاء؛ وقف الجميع استعدادا لمغادرة البيت، قبَّل كلٌ منهم، الكبير والصغير، الأب والأم والطفل، يدَ صاحبة البيت، جدة الأطفال.

بقيت العجوز بمفردها في غرفتها، أغمضت عينيها قليلا وعادت بذاكرتها للوراء، إلى زمان ليس كالزمان، إلى عالم كانت الأحلام فيه تُلون الخيال بألوان الربيع، كان النور يملأ القلوب رغم ضعف الكهرباء، الآن يسيطر ظلام القلوب الذي لا يحرقه النور بوهجه، ولا يبتسم أمام وميض العدسات، إنها أيام المشيب والتجاعيد، والتقوقع بانتظار أن يحين الدور لتلتحق بهؤلاء الذين اجتمعت معهم في ألبومات الصور.

فوق الكومودينو بجانب الفراش تراصت كثير من علب الحبوب، ألقت نظرة عليها، ثم حولت نظرها إلى الدرج، ثم مدت يدها المرتعشة التي تبرز منها العروق، وفتحت الدرج وأخرجت ألبوم صور قديم، تأملت غلافه هنيهة، ثم فتحته بعدما تعثرت يدها في عويناتها سريعًا هذه المرة ووضعتها فوق عينيها، تأملت صورة طفلة تتأرجح في فناء خلفي لمنزل كبير، وصورة تبدو للطفلة نفسها بعد سنوات وهي مرتدية مريول مدرسة لا يُعرف لونه تحديدا لأن الصورة بالأبيض والأسود، وفي يدها حقيبة صغيرة بينما تمسك يد امرأة ما، ربما تكون أمها، وشعرها مربوط ضفيرتين على جانبي رأسها، وقلبت في الألبوم حتى وصلت لصورة تجمع بضع فتيات في سن المراهقة أو أوائل الشباب، يبتسمن جميعا أمام الكاميرا، وقد زينت الألوان ملابسهن في الصورة هذه المرة، يبدو أنهن كن في نزهة ما والتقط أحد لهن صورة تذكارية جماعية تبدو من خلفهما أشجار كبيرة وبجانبهن مجموعات أخرى من الفتيات والشباب، وإحداهن ينفتح ثغرها بابتسامة تُظهر صفين من الأسنان المتساوية البيضاء، وترتدي جونلة زرقاء وقميصا ورديا.

قلبت في الألبوم حتى وصلت لصورة تجمع الشابة ذات القميص الوردي مع شاب كثيف الشعر والشارب، ترتدي هي فستانا أبيض من الدانتيل، ويرتدي هو بزة سوداء مع ربطة عنق عريضة، ظلت تقلب وتقرب عينيها أكثر فأكثر لتملك عيناها الضعيفتان ملامح الصور، ثم أغلقت الألبوم بعد أن وصلت لنهايته، ووضعت كف يدها فوقه وأغمضت عينيها لتريحهما أو لتعود ببقايا ذاكرتها للوراء.

لا يحتفظ العجائز بالذكريات على الحاسوب، بل يحفرونها على جدران القلوب، ويكتبونها على أوراق تعجز وتتجعد وتصفر مثلهم، ويحفظونها في ألبومات صور، يطالعون فيها ماضيهم إن بقيت عيونهم ترى، يتذكرون ما فات إن لم يصبهم النسيان، يحنون إلى لحظاتها إن جاز لهم الحنين.

فتحت عينيها مجددا بعدما أعادت العوينات إلى موضعها على الكومودينو، آملة ألا تنسى مكانها مجددا، استجمعت قوتها الخائرة، نهضت من الفراش، رغم طقطقة فقرات عمود ظهرها، نزلت إلى الأسفل، جذبت حقيبة جلدية مهترئة الأطراف، فتحتها بيدين مرتعشتين، وأخرجت جونلة زرقاء وقميصًا ورديا، ما تزال رائحة النفتالين عالقة بهما، لم تعد عيناها الضعيفتان تلمحان القطْع في جانب الجونلة، نهضت بصعوبة وجلست على جانب الفراش تتلاحق أنفاسها الواهنة، ثم قامت محدودبة واستدارت لتواجه المرآة، تحاكي الصورة الجماعية في الألبوم مع بعض الاختلافات في التفاصيل، لون الشعر، تجاعيد الوجه، هزال الثديين، ترهل البطن، ارتعاش اليدين، لكن حتى مع سقوط الأسنان حاولت إعادة تمثيل الابتسامة التي كانت في الصورة.

………

 

* نص من المجموعة القصصية “كراس تسعة أسطر” الحائزة على جائزة المركز الثالث لمسابقة أخبار الأدب 2017

مقالات من نفس القسم

تراب الحكايات
موقع الكتابة

خلخال