أكتوبر

محمد عبد النبي: الترجمة تشبه أحياناً التبرع بدم الكتابة للغرباء من أجل كسب الرزق
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد عبد النبي

تطلين من الصور، بابتسامة ساخرة أو لسان مدل أو أي وضعية غريبة، فأقول: آزميرالدا. لم أعد أذكر اسمك الحقيقي، وكنت تشبهين آزميرالدا، لم يكن ينقصك إلا عنزة تصاحبك كظلك، لكي تصيري هي. الغجرية التي تسكن الكتاب وأرهقت روح الأحدب والقس الشرير وآخرين.

في الصور، يظهر التباين بين جسدي الضئيل النحيل، وجسدك الفارع السارح. أنا، وكأن بي رغبة في الانكماش والاختباء، لكنك واضحة تعلنين عن نفسك ببساطة وبلا تباه، رغم الأقنعة البهلوانية التي يتخذها وجهك. أنا عنزتك إذن، العنزة التي لم تكن لك قط، في المزرعة التي ظلت حلما عابثا، من بين أحلامك التي بلا أي أساس واقعي. احتضني إليك العنزة الوحيدة مثلك، ودعك من الرجال الطامعين.

جمعتنا المصادفة، في ملتقى المبدعين الشبان ذلك، بين آخرين من عرب وأفارقة، وكنت ببساطة شيئا آخر. لا أنت جزائرية ولا فرنسية، لا شاعرة مخلصة للشعر وحسب، ولا ممثلة مسرح لا تتقن سوى أن تتقن دورا، لا بنتا تربك الرجال ولا شابا يغوي البنات. كنت امرأة ما، تعيش في فرنسا وأصلها جزائري، تكتب شعرا تخفيه عن الجميع، و لها محاولات محدودة في التمثيل والكتابة الدرامية، امرأة قد تتجنبها البنات، عندما يشعرن بالحفاوة الزائدة التي تخصهن بها، وتصدم هي الرجال، برفضها محاولات التقرب في استهانة. أدرك، الآن، أننا، معاً، كنا شيئا آخر.

أنت آزميرالدا، بوجه مستطيل و ذقن حادة و لون قمحي، مثل لون أخواتي البنات. شعرك مهوش على الدوام، لا تتذكرين المرة الأخيرة التي قمت فيها بتصفيفه، تقولينها ضاحكة، فأردد من جديد: غجرية. اكتشفنا ببساطة أننا لو كنا نعيش في المدينة نفسها، لصرنا صديقين حميمين، بكل تأكيد، لماذا؟ الله أعلم. لعلها ليست فقط أصول كل منا المتواضعة، ولا نفورنا من نفاق وزيف الفنانين والمثقفين، لعله شيء آخر، لم أصرح به أنا ولا أنت. كان على طرف اللسان، لكننا ابتلعناه، فلا كان حلوا ولا كان مرا.

ندخل إلى متجر الألبومات الموسيقية، أطلب منك أن تختاري لي ما تحبينه من موسيقى غربية، تبحثين ولا تجدين ما يروق لك إلا إيديث بياف وجاك بيرل، وآخذ أنا لك فيروز وأسمهان، رغم لغتك العربية المحطمة تماما، فهل أعجبتك الموسيقى؟ هل طابت لك الأصوات على الأقل؟ لن أعرف أبدا، كما لن أخبرك أنني بحثت عن أغنيات ليو فيري حتى وجدتها. قد لا تذكرين الآن هذه الرحلة بالمرة، لم تأخذي صورا كثيرة لها، قلت إنك تفضلين الاعتماد على ذاكرتك في استرجاع المشاهد، وإن الكاميرا وانشغالنا بها يربك عمل الحواس، في داخل تيار اللحظة. لم أقتنع كثيرا، وهاهو وجهك أمامي، فأين اسمك؟ ثم ضبطتك تلتقطين صورا يوم حفل الختام، فسخرت منك كثيرا، قبيل أن يجمعنا مكاننا السري، حتى الفجر، تقريبا.

ليس لدي رقم لك، ولا عنوان، للبريد العادي أو الألكتروني. لا شيء، هكذا ربما كان الاتفاق غير المعلن. فقط وعد بالتذكر، واحتمال ساذج بلقاء ثان، في مكان ما، عند تقاطع طرق ما. لكن سامحيني، فبماذا سأناديك عندئذ، بعد أن نسيت اسمك، و تخلصت من أوراق ذلك الملتقى، قبل ذلك بكثير، وبوقاحة أدبية، أسميك الآن آزميرالدا، دون أن أقرأ حتى رواية أحدب نوتردام. دعك من احتمال اللقاء شبه المستحيل، ماذا لو أشار أحدهم نحوك، في الصور، و سألني: “مين البنت دي؟” ؟

نجلس في مكاننا السري المعتاد، لآخر مرة، سوف نسافر في نهار الغد، أنت عند الظهيرة، وأنا في أول المساء، كل إلى جهة. إنه الدرج الداخلي للفندق، حديدي ومفتوح على قطعة من سماء تلك المدينة العربية الصغيرة والبديعة. صار هذا الدرج مستقرنا الليلي، عند نهاية كل يوم، بعد إرهاق وضجيج ومشاوير، بعد ورش عمل وإلقاء ، و كلام لا يؤدي ولا يجيب. رفيق غرفتي مثل رفيقة غرفتك، حريصان على الصحة والسلامة، ولا يسمحان لنا بالتدخين بالداخل، ناهيك عن الشرب أو الثرثرة حتى الثالثة صباحا. لو أننا مبدعون كبار، لكان لكل واحد منا غرفته الخاصة. اكتشفت أنت المكان، وأخذتيني إليه، قائلة : “البلاصا بتاعي”؛ مكاني الخاص. الآن نودعه، بمحض حريتنا، فقد سافرت مسبقا رفيقة غرفتك، تاركة لك فراشين وفضاء خاص. أنت الآن مبدعة كبيرة، ولو لليلة واحدة.

سأقول: إنها آزميرالدا، صحيح، اسمها غريب قليلا. أصل جزائري ومواطنة فرنسية من الدرجة العاشرة. لا تشتري إلا الكتب القديمة، تلك التي قرئت ألف مرة، وعليها بعض علامات قرائها السابقين. لا تمتلك إلا قطع الأثاث المستخدمة، تأتيها هبات أو من أسواق السكاند هاند، ليست قديمة لدرجة أن تصبح آنتيكات طبعا. لا ترتدي إلا الملابس المتينة التي ذاب أصحابها دون أن يذوب نسيجها، فبيعت مرة بعد أخرى، ماركات أصلية من أزمنة مختلفة، لتجتمع في هيئتها أناقة عقود مختلفة للقرن العشرين. وتكتب شعرا، عن رجل صغير يركض، ولا أحد يعرف السبب، ولا هو نفسه. أسألها: أهو طفل؟ فترفع منكبيها بغموض. عن أنامل البنات، وما يمكن لامرأة ما (أسألها: أهذه القصيدة عنك أنت؟) أن تكتشفه عنهن من مجرد تأمل الأنامل. تضحك ولا تجيب. تكتب مسرحية قصيرة عن باريسي أسود، فقد النطق في حادثة حريق مبنى، يهوى تجميع علب السجائر الفارغة من كل الأصناف، يبني بها سفنا عملاقة، أساطيل كاملة، وأديرة وكاتدرائيات وناطحات سحاب، ثم يشعل النار فيها، بوسط الشارع، آخر النهار، الناس تتفرج، ولكنه لا يدخن أبدا. أسألها: هل عرفت شخصا يشبه هذا الشاب؟ فتهز رأسها نفيا، بحسرة.

هذا كله كلامك، و صمتك، فأين اسمك؟

صوتك يلون ظلمة الدرج الحديدي بضحكات فسفورية الألوان. ومن وقت إلى آخر تقرقع علبة بيرة فارغة بعد أن نلقي بها من مكاننا. أفاجأ بأنك تكسبين قوتك بالعمل جليسة مسنين، وتحكين عن زبونتك الأخيرة التي هربت منها، أرملة واحد من جنرالات أمريكا اللاتينية المخلوعين، فوق السبعين، بعين واحدة وبلا نهدين، ومستعدة لمواصلة السهر ثلاث ليال على التوالي، وهي تأكل وتشرب وتدخن الماريجوانا، وتحكي.. تحكي.. تحكي… وأنت، بجوارها، تفرفرين، تدفعي نصف عمرك مقابل ساعتين من النوم، لكنها تغريك بالمزيد من الدخان، بعد دخولكما في حلف سري، ضد جميع الآخرين وجميع التعليمات. ساعة نوم لوجه الله، ولكن قد يكون هذا هو آخر أيامها، لم يعد هناك الكثير من الوقت لتضيعه في النوم، وتلكزك لتنتبهي وتواصلي الإنصات لحكاياتها، كأنها تخشى لو توقفت عن الحكي أن يتلاشى تاريخها المجيد في طرفة عين، بل وقد تنسى… تنسى حسن شبابها، ونهديها اللذين طالما تفاخرت بهما، قبل أن يقصهما الأطباء، قد تنسى غرامياتها المجنونة، قبل وبعد الزواج، والرصاص الذي أطلقه المهووسون بها على بعضهم البعض، وليالي الرقص والغناء لحد الصبح، والصراخ من المتعة، والدموع التى تعطر الرسائل عند كتابتها أو قرائتها، بل وقد تنسى إذا ما سكتت اسمها نفسه، فيلتهم البياض الأثيم حياة، يأكلها هي، أو ما تبقى منها، الرفات.

وتلقين بعلبة أخرى، لتتخبط بالسلالم المعدنية حادة الزوايا، سلالم بئر النسيان. أنظر إلى الأسفل فيصيبني الدوار، أقول إنهم محقون جميعا، في خوفهم من ظلمة بئر النسيان، انظري. و تضحكين. هل نحن، أنا وأنت، للنسيان إذن؟ ألا نطمع حقا، في ملعقة صغيرة من إكسير الخلود؟ أن يبقى منا ولو الاسم فقط؟ على لسان فرد من صلبنا، ويتعهد بنقله، مع الصور والحكايات العائلية التي تناطح الأساطير، إلى فرد آخر، من صلبه كذلك، وهكذا، لما لا نهاية؟ تتوارثنا الأجيال يعني؟ فخ الحب، شرنقة الأسرة، بيت العنكبوت. دعك من هذا، نحن شيء آخر، هذا واضح، وإن لم نتصارح به حتى في تلك السهرة الأخيرة؟

سأقول: إنها آزميرالدا، بنت مجنونة، فضحتنا أيام الملتقى. مرة خلعت حذائها وجعلت تركض في الشارع، ونحن خلفها، لا ندري ماذا نفعل، فركضنا جميعا. شباب، تتراوح طموحاتهم ما بين الخلود وقضاء ليلة حب عابرة ونشر قصيدة. غرباء، جمعتهم المصادفة بدعوة من الجهة المستضيفة، اكتشفوا فجأة حلاوة أن يكون المرء شابا و ضيفا على بلد غريب، فيركض وراء غجرية.

وأخذت ترقصين، في ساحة صغيرة، قرب البحر، على عزف ولد من أهل البلد يلعب بالأكورديون. وبعد أن كان الناس يتجاهلونه، التفوا حولكما في ثوان. ورقصت لهم، للجميع، في سماحة نفس غجرية أو مجنونة. وأنا أتخفى بين الجمع الصغير، متبرئا من تهمة معرفتي بك. رقصك لا هو شرقي و لا هو غربي، مزيج غامض، تماما مثل ملامحك و قطع ملابسك. رقصتك بصراحة، مثلي ومثلك، مضحكة قليلا، شيء غير ما يعرفه الناس، شيء آخر. لكن جسدك جسور مع هذا، يتوتر ويتصلب حينا وكأنه قامة جندي جريح في معركته الأخيرة، ثم يلين و يتهادى كأنه بدن صبية مراهقة تسكر لأول مرة. بدا وكأنك سوف ترقصين إلى الأبد، لولا أن أنهى الفتى المليح عزفه، خشية ملل الزبائن وتفرقهم، دون دفع. فككت وشاح رقبتك، وفردته على كفيك، و أخذت تجمعين العملات الصغيرة، في تجاهل للكلام الشائن الذي تناثر من بعض الأفواه، بالعربية و الفرنسية. وأعطيت النقود كلها للولد، الولد ذي البشرة الوردية، بعينيه الضيقتين العسليتين، و رموشه الكثيفة الكحيلة، وحاجبيه المقرونين، والذي أراد انتهاز الفرصة على الفور، فقدم لك عرضا بالعمل معه، بل والعيش معه، كلا، بل معهم، أمه سوف تسعد بك كثيرا، فلم ترزق ببنات. ورحت أنت تمطرينه بالأسئلة، عن أمه، سنها، وماذا تحب وماذا تكره، وهل تربي طيورا أو حيوانات. ثم قدت الحوار إلى غرضك الأساسي، الذي سألت عنه طوب الأرض، منذ وصولك. أريد حشيشا، بلدكم العظيمة مشهورة بحشيشها العظيم، أنا ضيفتكم، وأنا أختك أيضا. أين كرم الضيافة؟ و الولد المسكين يشحب لونه، ويتلعثم ويحاول تغيير الموضوع، ثم يعلن أن عليه الذهاب الآن، فورا.

في الليلة الأخيرة، جلبت أنا علب البيرة، و انتظرت حسب الموعد، في مكاننا المعهود. هامش الفندق، سلم الطوارئ، بئر السنيان. وجلبت هي الحشيش، أما كيف ومن أي مكان وعلى يد أي شخص، فلم أعرف و لن أعرف أبدا. وراحت تعد اللفافات بدربة وسرعة، وتقسو علي بكلامها، وكأنها لا تريد لنا أن يخذلنا حنان الوداع، مثل أخت تعد لأخيها المجند حديثا سلة السفر، إلى كتيبته، على الجبهة، بتكشيرة مصطنعة، حتى لا يضعف. تقول لى لا أعرف كيف أثق فيك وأنت لا تعرف حتى لف السجائر؟ أنت أطيب من اللازم، وخجول مثل البنات، ومغرم بإرضاء الجميع، وهذا مستحيل. لا تنتقم منهم على الورق، انتقم من أولاد القحبة هؤلاء في الحياة، على الأرض، لكي لا تشيخ بسرعة بسببهم. إذا كانت الدنيا قاسية، فلم لا نكون قساة مثلها. لا تخجل من نفسك، ومن لا يعجبه يشرب من البحر. أنصت أنا مبتسما، وأستعد بالكلام السخيف الذي سأقوله ضدها بعد قليل، حتى تتوازن السهرة، ولا تظن أني أستنكف عن نزالها.

قرب الفجر، الحقائب معدة، المدينة نامت أخيرا. أتكور على فراش رفيقة غرفتك التي سافرت، وتتمددين أنت على فراشك. نفدت منا البيرة، ولم يعد بك طاقة لمزيد من اللف. مستنفدان تماما، من الشرب والتدخين ومن الكلام والتفكير. مرهقان وسعيدان، سعادة اقتراب النهاية أو استعجالها. رقدنا دون أن ننام، لبرهة، في نصف العتمة، وضوء الحمام الضعيف يلعق جدارا من الغرفة، محدقين في السقف، ومنصتين لأنفاسنا، أشبه بأخ و أخت. سافر الكبار فجأة إلى بلاد بعيدة، و لعلهما لن يعودا أبدا. أخ و أخت، متشابهان في كل شيء ومختلفان في كل شيء كذلك، مثل صورة في مرآة، تبحث عن أصلها في الجهة الأخرى.

بمعجزة النوم وحدها، هزمنا خوفنا من سفر الغد ومن قسوة الصحيان من الحلم، ومن عاملات الفندق الواشيات.

ــــــــــــــــــــــــــــ

* قصة من مجموعة شبح أنطون تشيخوف

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم

تشكيل
تراب الحكايات
موقع الكتابة

ثقوب