أكابيلا إيدا وماهى

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 38
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

هدى توفيق

أكابيلا: هى استعراض سمعى لا بصرى وهو لون يستغنى عن المصاحبة الموسيقية للآلات ويستعين بدلا منها بالصمت البشرى من كل الطبقات من السوبرانو إلى الباص. وهو لون يشكل تحديا لألوان الغناء المألوف المعروف، ويحتاج إلى دراسة متعمقة فى علم الأصوات البشرية، طبيعتها ومساحتها، وعلم التأليف الموسيقى، الهارمونى وكونتر يونيت. ظهرت أغانى أكابيلا فى القرن السادس عشر كشكل من أشكال الموسيقى الدينية تكتب للأصوات البشرية وحدها، بدون استخدام أية آلات، وتغنيها المجموعة، أما أول من لحنها فكان الإيطالى بيير لوجى بالسترينا 1536 ـ 1594 والذى قضى حياته فى خدمة الكنيسة وتأليف الموسيقى الدينية، ثم ظهرت المدرسة الفلمنكية، واهتمت بالصوت البشرى فقط فجعلت منها أداة للتعبير الكامل وأصبحت أكابيلا تعتمد على الهارمونى المدروس، لا لمجرد وجود أصوات متوافقة بالصدفة. كانت فى إيطاليا مدرستان لغناء أكابيلا، مدرسة فى روما وأخرى فى البندقية (فينسيا) يظهر فيها فخامة الفن الإيطالى الذى يتجلى فى هذه المدينة المبهرة. أما فى مصر، فقد كان محمد فوزى رائدا فيها، مثل أغنية الأطفال وصناعة الأسطوانات والأداء الحركى الراقص بدرجة مبهرة.

استعانت الكاتبة باكابيلا لتبدع قيثارة خاصة لايدا وماهى فى سرد أشبه بانشاد غنائى بديع يفصح عن قدرة عالية فى الوصف وتفتيت الجمل برهافة وحسية بليغة تصل بسهولة ونعومة الى قلب وعقل القارىء  وتتيح للقارىء الاستغراق والتواصل معها دون أى عناء بل نستمتع بالفراءة والتلذذ لما تحكيه عن بطلتها الروائية عايده.قد استخدمت الكاتبة اللغة ودرامية الاحداث  لتخرجنا من المعانى التى تطفو على السطح كالصداقة والحب والفراق لتأخذنا الى المأذق الحقيقى لتلك الروح الروائية المعذبة طوال الحكي بأن تكون هى تلك الروح البائسة المعذبة فتبدو ماهى وايدا وجهان لعملة واحدة رغم اعتراض ماهى الظاهرى لبعض سلوكيات عايده لكن الرغبة الخفية تفتح ذراعاها لتلك الحياة الجديدة والغريبة فى ان واحد مع ذلك الكيان الذاتى والانانى والطائش والجموح فى حب المعرفة وخوض معركة الحياة بجسارة وجرأة شديدة تحسدها عليها ماهى المحتشمة  المرتبطة بالعائلة والخجل البرجوازى المعهود وتقاليد الأسرة والمجتمع البائس وماهى لا تعترض بتاتا على زوجها وحياتها الاسرية السعيدة بل هى سعيدة بها إلى حد ما، ولكنها فى لحظة شائكة مع الزمن والملل وفضول المعرفة، وإلحاح الرغبة بالتغيير، قد أتيح لها، فى شخص عايدة، التى هى كاذبة محترفة، وسارقة، لكن ماهى يبهرها ذلك وتجتذب إليه بشكل غريب “هذا الجانب الجديد فى شخصيتها رغم علاته يعدنى بمغامرة مثيرة”، وقد أتاها كالنداهة صوت من غور سحيق بقراره قائلا في حسم وشدة كمن يفيقها من الغفلة التى عاشتها طوال حياتها “أن الكل غبى ويستثنى من الكل عايدة”. إنه صوت ماهى المكتوم، الخالى من النغم، يسخر ويستهين ويصر ليتأمل الحياة بصورة مغايرة عن كل ما سبق، وعما كانت تظنه وتفعله بهدوء وثبات. إن ماهى، بروحها الشفافة والسنتمتالية، تعانى عذاب الحب، ولا تستطيع أن تكره، رغم خيانة عايدة لها فى كراس اليوميات، وهى تكتب عن تفاصيل صغيرة، تحللها وتسخر منها، وتحتفظ برأيها الصريح سرا فى هذا الكراس. وتخاطبنا ماهى بألم وحزن قائلة: “لكننى فى سورة الغضب منها ومن نفسى نسيت أن أقرأها…بل تركتنى وحيدة فى عزلتى ومضت وحيدة فى عدوانها”.

إنها روح ماهى الرومانسى الذى يشف عن روح عاجزة عن الكراهية، فهى تحب ولا تستطيع أن تكره: “أحب وأبتعد لو أردت ولكنى لا أكره”.

أشد ما يجذب الانتباه فى تلك الرواية هو استخدام الأوصاف التى ترسم بريشة فنان أكثر منها كاتبة محترفة، بها قدر كبير من الرقة والنعومة والعمق، فى هذا السياق يمكن أن نقرأ مثلا: “لفت انتباهها نوع من ستائر الحمام مصنوع من الدانتيل كان ظهر الستارة من البلاستيك الرقيق، ووجهها من الدانتيل السينتيتيك ملمسها فخما كأنها ستارة صالون”، و”تمثال فضى صغير لفارس من القرون الوسطى دقيق الصنع”. أما فى وصفها لعايدة وعلاقتها بالآخرين، المتمثلة فى أربعة رجال، تتسم الكتاب بقدر عال من التألق واستخدام الجمل الوصفية “المنعشة” للخيال والروح، فى مشاهد حية وجميلة المأخذ للغاية: “وترفع وجهها قليلا تجاه السماء، لتصبح إضاءتها الطبيعية مصدرا للإيحاء (لها ومن ثم له) بمشهد سينمائى بالغ العذوبة عن علاقتها العاطفية المفترضة”. ونموذج آخر يمثل الدقة والرقة المتناهية فى الوصف: “فى الصباح التالى ترجمت فقرة من المسرحية ونسختها بخط منمق على ورقة مصنوعة من عيدان الأرز، ووضعت الورقة فى مظروف كبير حتى لا تنثنى وخرجت”.

الرواية تعج بتلك التفاصيل المدهشة، بلغة صافية وعذبة، تنهل من روح محبة ومعذبة للغاية، كقول أخير لها: “علبة شمع تحتوى على أربع شمعات حمراء على هيئة قلوب كبيرة تفصل بينها شرائح من البلاستيك المقوى”.

الزمن والمكان، فى هذه الرواية، ينطلقان فى الهواء كالطيارات الورقية، دونما حدود أو تحديد، فالزمن مفتوح وليس له معيار منطقى، كما هو متعارف عليه فى بعض الروايات، وإنما هو مرتبط فقط بكون عايدة وماهى موجودتين فيهِ، فأفضل أوقات عايدة هو وقت العصر “الذى تهدأ فيه هواجسها وتهبط بدرجة أقرب للطبيعية، وتنشط فى أثنائه أفكارها، فتروح تضع الخطط ..”. وهكذا من فكرة لفكرة، ومن دوامة لدوامة، حتى يأتى موعد الخروج والسهر. بينما ماهى تفضل الصباح وتبتهج كثيرا حين تشرق الشمس، وتغمرها فرحة خاصة لأن الشتاء ولى ببرده القارص وصباحاته الكئيبة وجاء الربيع بهوائه المنعش ووعوده المرحة، كل هذا يحدث بين شقة عايدة والشاليه أو منازل الأصدقاء أو فى وسط المدينة الذى عادة ما تقابل فيه عايدة، دون أن نعرف مكانا محددا (أى فى أي بلد بالضبط، وغالبا هى مصر لذكرها مقهى وحلوانى خارينوس فى مصر الجديدة). المكان والزمن أشبه بأبطال يتسمون بالهشاشة، ليس لهم معنى أو مغزى فى هذه الرواية،  وأظن أن الكاتبة ترى أن عايدة هى البطل الأوحد الذى يفوق ويتفوق على أى مكان أو زمن.

إن أزمة ماهى فى تجاهل وكذب عايدة المتكرر، وإعادة قراءة ونسخ الكراسات اليومية، هو الشيئ الوحيد الذى يعيد لماهى اعتبارها الذى أسقطته عايدة من كل حساباتها. عايدة هى نقيض ماهى المحبب، نقيض روحها المستقر المحافظ على قاموس الالتزام الأخلاقى بالوراثة الذى تربت عليه طوال حياتها العادية، والتى أصبحت غير عادية، وجديرة بالمغامرة مع التقائها بعايدة وأصدقائها الذين يراودهم حلم الفن والمعرفة والحياة بأشكال أخرى، فتقول الكاتبة بحزن وعتاب شديد لنفسها: “دوامة لذيذة وممتعة أخرجتنى من رتابة الحياة اليومية، مهينة ومخجلة، لأنى وافقت أن أكون شاهدة صامتة على نزواتها المتكررة فى مقابل الحصول على فتات صداقتها”.

عايدة، فى النهاية، هى وجه الحرية الذى نسعى إليه جميعا، وجوفنا يصرخ به دون أن نصرح بذلك أمام السدود الاجتماعية والبشرية. إن رواية (أكابيلا)، فيما أظن، تمثل صرخة عالية كى نخرج وننطلق ونواجه الزيف والكذب وكل الالتواءات فى الحياة العاثرة، من أجل أن نحيا ونعيش نصف حياة. إيدا كما أرادت وفضلت أن يكون اسمها بدلا من عايدة، حين كتبته لها صديقتها ماهى على إهداء الكتاب الذى ترجمته، هى ذلك الوجه القبيح والجميل فى آن واحد، لسبب بسيط : أننا لسنا ملائكة، وإنما بشر تتقاسم فى أعماقنا بذرتا الشر والخير. من هنا تأتى الدراما وتلوح سيكولوجية هذا الكائن البشرى المعقد، أعظم المخلوقات وأتعسها فى آن واحد، تماما مثل إيدا بالضبط.

أعتقد، فى رأيى المتواضع، أن الرشاقة اللغوية للكاتبة، وذكاءها الروائى، جعلا من حكاية بسيطة عن عايدة وأصدقائها جعلتنا ندخل فى رؤى مغايرة عن الصداقة والحب والموت، وكل رغباتنا المكبوتة والمسكوت عنها، ثم نخرج إلى عالم رحب واسع صادق، ينتشلنا من وحل الأقدام إلى صفاء السماء الجميل، لنستنشق نسمات وهبات الحرية التى تكتسب ولا تمنح، كما فعلت ماهى أخيرا، حين قالت على لسان أحد الأصدقاء: “بعد زمن عاد وسألنى إن كنت أخاف من الوحدة، وعندما أجبته بالإيجاب قال وهو يضمنى إلى صدره بلا استئذان: مش كان نفسك تخرجى للعالم؟ خلاص يا بيبى …. ريلاكس!”.

 

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم