“أقاصيص أقصر من أعمار أبطالها” ..تأسيس سردية تتجاوز الواقع وتعيد تشكيله

tareq imam
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

آمال صبحي 

حين نلج إلى عالم طارق إمام في مجموعته “أقاصيص أقصر من أعمار أبطالها” لا نكون بإزاء تجربة قصصية تقليدية، ولا أمام حكايات تستعرض مصائر أو أحداثًا متسلسلة. نحن، ببساطة، في فضاء يستدرج القارئ نحو إعادة النظر في ما اعتُبر بديهيًا، ويحرّضه على تفكيك العلاقة بين اللغة والتجربة، بين الكلمة وظلها، بين الحكاية وإمكان استحالتها.

منذ الإهداء المقتضب لوالده: “أنت فوق التراب، وأنا تحته”, يتشكل خيط خفي من الارتجاف الداخلي. ثنائية الصمت والوجود تضع القارئ أمام جملة تتجاوز الحميميّ، وتتلامس مع ما هو كوني، كأن الكاتب يعلن عن افتتاح نصّه من نقطة عمياء في الوجود، من منطقة لا تخضع لمقاييس الخطاب الشائع، ولا تأتلف مع سياقات التلقي المعهودة. هذا الإهداء يُلمّح إلى قلب للمقاييس: الأرض لم تعد أساسًا ثابتًا، والحدّ الفاصل بين فوقها وتحته لم يعد نهائيًا.

في هذا السياق، تخرج كل قصة من رحم المفارقة الوجودية. المفارقة هنا لا تنبني على الإدهاش اللحظي، إنما تنشأ من شعور خافت بالاختلال، من فراغ يتسلّل إلى الحواس، من خلل في انسجام المفاهيم مع تجلياتها. في قصة مثل “كلانا ضيف الآخر”, تطرق الشخصية باب بيتها من الداخل، فيُفتح لها من الخارج. هذه اللحظة لا تُعالج كواقعة غرائبية، وإنما تُكتب باعتبارها ارتجاجًا في البنية الإدراكية. الداخل يصبح مشهدًا للتساؤل، والخارج يتحول إلى مرآة تنعكس فيها هشاشة التصورات القديمة. الجدران تنكمش وتتفكك، والأبواب تفقد معناها الأصلي كحواجز. تتوالد الأسئلة في غياب أي يقين.

لا يتعامل طارق إمام مع اللغة كوسيط. اللغة هنا كائن قائم بذاته، يتشكل ويتحوّل ويتكاثف، ويتطلب من القارئ أن يتخلى عن عاداته القديمة في الفهم. الجملة مشحونة، نابضة، لا تُلقي المعنى بسهولة، بل تلتف حوله، تُغيّبه حينًا وتلمّح إليه حينًا آخر. نقرأ: “رجل عجوز، عجوز لدرجة أنّ أحداً لا يصدّق أنه كان طفلاً يوماً ما، وبلا فم، بعد أن سرقت يد قديمة كلماته للأبد”. هذه العبارة  تُمارس فعلاً شعريًا يخلق صورة ويقوّضها في الوقت نفسه. الكلمات لا تتجاور لتصف، وإنما تتصادم لتفتح فراغًا يطلّ القارئ منه على هشاشة الإدراك.

ينقسم الكتاب إلى ثلاث حركات: “لأننا نولد عجائز”، “هايكو المدينة”، و”لأننا نموت أطفالاً”. هذا البناء يوحي ببنية دائرية معكوسة، تُعيد ترتيب التجربة البشرية وفق منطق جديد. الولادة هنا لا تنبع من براءة، والموت لا يأتي محمّلًا بالحكمة. الزمن لا يسير وفق نسق تصاعدي أو تنازلي، بل يتشظى في اتجاهات عديدة، تُعيد تعريف العلاقة بين التقدّم والتراجع. القصص تتقاطع في ما يشبه التأمل الطويل، ويتحوّل القارئ إلى مشارك في إعادة خلق الزمن من داخله، لا من خارجه.

في القسم الثاني، تظهر المدينة ككائن متبدّل، يتنفس ويتداعى. لا أسماء واضحة، ولا خرائط مألوفة. المدينة تتشكل من صدًى بعيد، من خيالاتٍ تتراكب، من ضوءٍ خافت ينسحب في زوايا السرد. الأطفال لا يجدون مقاساتهم داخل شوارعها، والوجوه تتشابه كأنها نُسخ قديمة تُعاد طباعتها. الأمكنة لا تتسع، ولا تضيق، وإنما تفقد صلابتها وتتحول إلى هواء يمكن عبوره دون أثر.

شخصيات المجموعة تتجسد كهالات، كأفكار تتخذ شكلًا ماديًا للحظات قبل أن تتبدد. لا سير ذاتية واضحة، ولا تطور درامي تقليدي. في قصة ما، تصغر القدم كلما كبر الجسد، ويصير الحذاء متّسعًا، متاهةً لا يمكن الفكاك منها. تتداخل الصورة الحسية مع المجاز، دون أن يسعى النص إلى شرح هذه العلاقة أو توجيهها. الأشياء تفقد أدوارها، وتكتسب معاني جديدة تتكوّن من الصمت والارتباك.

الحياة والموت هنا لا يُرسمان كطرفين متقابلين. نقرأ: “عندما مات، استيقظ ولم ينم”. الموت يتحوّل إلى يقظة من نوع آخر، إلى عبور غير محسوس نحو منطقة لا يمكن تسميتها. الاستيقاظ لا يدل على بداية، والنوم لا يعني نهاية. المعنى ينسحب من التعريفات، ويتسلل إلى شقوق التجربة. لا يُقدَّم الموت كصدمة، وإنما كتحوّل في نوع الإدراك، كمغادرة لنسق اللغة قبل مغادرة الجسد.

في هذا النص، لا يتجلى عنصر الدهشة كأداة للإثارة، بل كوسيلة للإقامة داخل سؤال مفتوح. لا يتحقق الإدهاش من الغريب أو المجهول، وإنما من كثافة المألوف حين يُرى من زاوية مائلة. القمر، مثلًا، يظهر كجسم يُداس، لا كرمزٍ شعري. الصورة  تُستخدم لإزاحة المعنى عن موضعه، لخلخلة ما ترسّب من يقين. الكلمات اليومية تُجرَّد من استعمالها، وتُعاد صياغتها كأنها تُنطق للمرة الأولى.

“أقاصيص أقصر من أعمار أبطالها”: هي مشروع كتابة يستكشف حدود اللغة وحدود التجربة. لا تسعى القصص إلى سرد الواقع، ولا إلى محاكاته. بل تُعيد خلقه من الداخل، تُفرغه من مضمونه الموروث، وتتركه معلّقًا، هشًا، مفتوحًا على تأويل لا ينتهي. حيث المعنى لا يُمنح بسهولة، وإنما يتشكّل عبر القراءة، عبر الانتظار، عبر المكوث الطويل في هامش الحكاية.

……………….
روائية وناقدة سورية 

مقالات من نفس القسم