أظافر

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 

قبل أن تفتح فاتن صفحتها تتأكد من الرقم الذي ستتصل به.061654783. تلتقط عيناها أظافرها. ثم بحركة آلية ترفع السماعة و تنتظر صوتا ما في الجهة الأخرى.

عبر حاسوب الشركة  الموصول طيلة فترة العمل بالنت تجرؤ على الدخول إلى صفحتها. لا تهتم بالتلصص الذي يمكن للمدير أن يقوم به الآن أو متى عنَّ له ذلك. تقول إنها كلما كتبت قصة صار عالمها أضيق من أن يدخله مدير.

العاشرة صباحا. لا ساعة بمعصمها. الساعة الوحيدة التي تكبلها هنا هي تلك المثبتة بالحاسوب. تمرر سهم الفأرة على الاختيارات الموجودة أعلى الصفحة: اختيار الرسائل، اختيار الأصدقاء و الإضافات.

ثمة رسالة لم تٌقرأ بعد. تنظر بهدوء إلى أظافرها. يسري ما يشبه كهرباء خفيفة في كامل جسمها.

 أنا لا أرى الضوء طبعا غير أنني أفترض أن وميضه ينطلق من جهة ما خفية  في العينين و يعبر  سريعا إلى أقصى نقطة في الجسد.

تمرر  فاتن بطن إبهامها الأيمن على ظفر سبابتها اليمنى.  بنقرتين تنفتح الرسالة. تقرأ:

 قبل أن أبحث عن النوم في أقاصي عيني أود أن أكتب لك:

ككيس رمل نامي.

أتركك  الآن، أغادر صفحتك حيث  القميص  في صورتك الأخيرة قطعة من السماء و المزهرية تبدو كما لو أنها فرحة بوجبتها اليومية من الشمس.

يخيل لي أن السرد فضاء أكثر رحابة  غير أن الصورة قد تكون أبلغ من الكلمة. أغادر الصفحة  الآن كي أستقبل ليلي، وككل ليلة  سأندس في سريري البارد.

يدرك  مؤلفي هذا جيدا غير أنه يتفادى الظهور بمظهر العارف بخباياي. يفتح عينيه قليلا و يبتسم حين أضيف إلى ما كتبت  لك:

غريب أن يقودني هدوء  هذا الجبل النعسان

 اشتباك أصابعك أمام الكاميرا،

تخيلاتي الأكثر جموحا

على الأرجح  في اتجاه  قصتك القادمة.

تضع فاتن السماعة. يرن الهاتف  للحظات في الجهة الأخرى غير أن لا أحد، يبدو، يكترث للرنين. بقلم أسود تضع علامة بجانب الرقم الذي اتصلت به و لم يجب.

 سأعود إليه بعد حين، تكلم فاتن نفسها. علي أن أنهي هذه المكالمات، تقول ضجرة.ثم تشرع في تركيب رقم آخر..

مرحبا.

مرحبا.

نود أن نخبرك  بأن شركتنا ستنظم  مهرجانا وطنيا…

عادة لا تعلق فاتن على ما يكتب في صفحات الأصدقاء و الصديقات. تكتفي باللايكات. ثم تمر إلى الروابط. بعينينها اليقظتين تفتح روابط أصدقاء و صديقات، تتهيب من أخرى. تقفز على ثالثة. قد تتوقف عند رابعة. لا تهتم كثيرا بجنس الصفحة. تقول إن المحتوى هو ما يحدد اختياراتها.

 تنتقل بالسهم عبر صفحتي . تعود إلى الرسالة.  ثم تستمر في إخبار الشخص في الهاتف.

نرجو أن تؤكد لنا حضورك .. طبعا هناك مبيت و أكل.

 تضع السماعة مرة أخرى. ببطن كفيها تغلق أذنيها لبرهة.

 تفرك أصابعها طردا ، ربما، لقلق داخلي لا تجد له سببا.  و دون أن تفكر في مجرى الكتابة الذي سيسير فيه النقر تترك لأصابعها حرية الانسياب عبر لوحة المفاتيح.

تكتب. هي تكتب و لا تجيب طبعا.

ككيس نمل نمتُ،

لا بأس أن أخبرك  الآن. البارحة أغلقت صفحتي بعينين مثقلتين. كان النمل يسحبني إلى  شجرة الأوكاليبتوس،

تلك الشجرة المغروسة في تربة طفولتي.

هناك خُيِّل لي أنني أٌحمل  إلى أعلى الشجرة فأترك للسقوط . أسقط  فيتكسر حجر بداخلي.

 الآن يتحدث المدير في التلفون

أسمع رنين المال،

زمجرة خلاطة الإسمنت في صوته.   ضروري أن أغرق، ككل نهار طبعا، في مذكرة هواتف رمادية.

لا أدري إن كان في علمك  أن  برد هذه المدينة الرسمية، ربطات عنق موظفيها، غطاء الرأس آخر موضة لموظفات يتقن لغة الحساب  أثقل على القلب.

تترك فاتن  صفحتها الآن لتعد المدعوين والمدعوات لحفل ليس لها فيه غير أرقام هواتف غريبة. سيكون عليها الاستمرار في الاتصال بصحفيين و بصحفيات لتغطية مهرجان وطني حول فن المديح. بتجربتها تعرف أن العديد منهم سيحضر فقط من أجل ظرف مغلق و غرفة في فندق قد تكون مجاورة لغرفة وردية.

ألو. مرحبا. لدينا مهرجان لفن المديح. ندعوك للحضور.

شكرا. طبعا .سأفعل.

و قبل أن تقلب فاتن  صفحة مذكرة الأرقام تعيد إلقاء نظرة خاطفة على أظافرها.  ثم تعود إلى صفحتها. تكتب :

 تعب ملل ضجر رنين  هواتف لا يفتر. صوت سيارات و آلات في الجوار. لا يمكن أن تعيش بالإبداع هنا.لا بأس. “في انتظار الشمس ينبغي على المرء أن يتعلم النضج في الجليد”.

ألو. أهلا وسهلا. بودنا أن تحضر إلى المهرجان الوطني الأول لفن المديح.

أهلا و سهلا. شكرا. ما هي عروضكم؟

مبيت. أكل و شرب. جولة في المدينة و أشياء أخرى ستعرفها حين تحضر.

أوكي. سأحضر.

 ككل صباح ، لا بأس أن أُذَكِّرَني، تفتح فاتن حاسوب الشركة. من عاداتها أن  تفتح نوافذ عديدة:

 البورصة ، الشركة، مجلة أدبية،

 نافذتها و صفحة وورد فارغة.

 تقول إنها تستطيع أن تقوم بأشياء عديدة في وقت و النسيان ملاذها حين تحب أو تكره . بالنسيان تتخلص من كل شيء مزعج. تنسى كل شيء حتى مذكرة الأرقام اللعينة التي يطن رنينها في أذنيها طوال اليوم.  والسرد الهادر التلقائي الملتبس المدهش المثير المغوي الآسر حديقتها المشتهاة.

ولأن القصة مجال خصب للتذكر و المحو  لا تتردد فاتن أن تضع نسيانها هناك.  هناك حيث يكون للعشق وقت كافي للنمو.

قل ، رجاء، لساردك  المفتون بلون الحناء في ساقي اليمنى وبالتباس اللغة في قصصي،  أن لا يطيل النظر إلي.

عيناه من نار

من غموض مشتهى

يصعد الدم إلى خدي حين  أتخيله محدقا في ساقي.

تتصلب  أزرار لوحة مفاتيحي،  مفاتيح لوحة الحاسوب أقصد.

الرقم ما قبل الأخير. ستتصل فاتن و ترحب مرة أخرى بالضيف المنتظر. لن تبحث في كلامه عن خفة الوقت. بتجربتها الرصينة تدرك أن الخفة لا تناسب الزاحفين على بطونهم..

لذلك تهاتف صاحب الرقم الأخير و ما قبله بكل الحياد الذي لا يرغبه الحساب البنكي للشركة.

ننتظرك. أقصد ينتظرك المنظمون يوم السبت بالقاعة الكبرى. ستجد من يستقبلك.

شكرا.

ثم بنقرة تعود إلى صفحتها غير الفارغة.

تقرأ ما كتبتْ. تقرأ ما كتبتُ. تقرأ لتبحث عن  الجسر. ذلك الجسرُ الذي قد يمتد من نقطة ما في الافتراض إلى نقطة ما في الواقع. تقرأ لتبحث عن  خاتمة  لهذا الشيء الذي انكتب. 

 في ذهنها  تمر مفردة الطين.

 أريد طينا كاملا أكمل به تكويني الناقص، تكتب فاتن، طينا يكتب ملحمتي القديمة.

في الليل، وحيدة كما أشتهي،  أخلع عني وجهي النهاري المحايد، أتركني أتأمل كل جسدي قطعة قطعة. و حين أصل إلى أظافري، أمنحني ما يكفي من الهدوء و الوقت لأراقبها و هي ترسم عينين بنيتين في الطين. قد أرتعش قليلا حين أطيل النظر في لون العينين  المرسومتين. لذلك بدل أن أدعني أغرق في عمقهما  أغلق عيني و أحاول النوم مثل كيس رمل يسحبه كيس نمل.

 

 

مقالات من نفس القسم

تراب الحكايات
موقع الكتابة

خلخال