من شأن الاهتزاز أن يُفقدك اتزانك ، و لكن أن يصنع الاهتزاز جرحاً غائراً فهذا ببساطة ما قدمته الكاتبة ، لأنها قدمت مفردات لأزمات نمر بها جميعاً لكن عندما تكتب عنها نجلاء علام فهي تنسج عالماً شديد العذوبة نسجته عين كاميرا أو عين طفل كل ذاكرته عبارة عن صورة يختزنها العقل ليفرغها في سطور شديدة الشعرية .
وحدة و موت و فقد
ثلاثية تقدمها الكاتبة في نصوصها ، الوحدة هي ذلك الفراغ القاتل الموحش الذي تنجو منه الكاتبة بوصف شديد الدقة في ادراك تفاصيل المكان بألوانه الباهتة التي تعطي للأيام نفس نكهة هذه الألوان الباهتة ، و لا يقطع هذه الوحدة في قصة ( هكذا ) سوى صوت جرس الباب و صوت غليان الماء ، و عندما تحمل الراوية البراد تفرغ معظم ما به من ماء إذ تتذكر أنها وحيدة ، و كأن احتساء الشاي كان له طقساً مع الآخر الغائب ، ضاع الآخر أو سافر و لكن النتيجة الحتمية أنها تُعاني وحدة موحشة ، أقلقني في هذا النص كثرة حروف العطف التي يبدو بعضها زائداً ، فتضعف تصاعد الحالة الدرامية للعمل ، حيث هذه الواوات تفيد التتابع و حذفها يفيد تصاعد الحدث .
ابتسامة فوق شفاة الموتى ، مفارقة لا تصنعها سوى نجلاء علام ، الابتسامة للبنت التي تشبه تمثالاً شمعياً ، هذه الابتسامة داخل صندوق الولد و البنت ، و رغم ذلك تجد من يمسح للولد دمعه و هو ميت بينما البنت حتى في لحظة الموت لا تجد من يضمها ، هذا فضح شديد العذوبة و الهدوء لمجتمع ذكوري ، حيث العالم عالم الولد ، أما البنت فإنها تعيش و تموت دون أن يمسح أحد على وجهها أو يضمها ضمة أخيرة ، و لكن الكاتبة بحسها النسوي تمنحها فرصة للحكي ، فتحكي البنت عن عالمها بأسلوب مشبوب بالحب و القهر معاً ، و في النهاية تصعد ابتسامة على شفتيها كفراشة باتجاه السماء .
المستشفى صندوق كبير للموت ، يدخل إليها يومياً ظل الموت يحلق فوق الآسرة ليختار أحبائه ، و نور صديقة الموت ، في قصة ( نور ) تعرف من اختاره ، تتأمل الوجوه وتراه في الشحوب و اسبال الجفون ، يتحول السرير إلى سجن لا نهائي يفصل حديده بيننا و بين العالم الذي ودعناه منذ زمن قليل ، نولد في المستشفى ذي الرائحة العطنة و نخرج قليلا ثم نعود لنموت وسط الدم و العطن .
الأمثلة كثيرة و متواصلة داخل القصص عن هذه الثلاثية ، و التي استطاعت الكاتبة التعبير عنها بلغة رهيفة متقنة .
التوق للحرية
ملمح آخر هام في هذه المجموعة ( أفيال صغيرة لم تمت بعد ) ، و هو البحث الحثيث عن الحرية ، و لنتأمل معا قصة ( الظل ) و التي تتطوق فيها البنت إلى الحرية فتعمد إلى اطلاق العصافير من أقفاصها .
أما في قصة الجياد فتبدأها الكاتبة بالفعل انكفأ ، فعل خماسي مزيد ( انكفأ الحصان فاحدث سقوطه تكة واحدة مكتومة ) لماذا لم تبدأ الكاتبة بفعل سقط ؟ لأن السقوط لا يناسب الاختفاء الذي يمتد من بداية حكي شهرزاد ( الكاتبة ) ، شهرزاد تتحدث و تحكي طوال المجموعة بالفعل الماضي بما يسربه داخل النفس من شجن ، فيدل على كل هذا العذاب و الألم النفسي لأن الأب / الحبيب / الزوج اختفى و بالتالي يسقط الحصان ، و يسقط معه الأثر الذي تركه الأب فيسقط معه الفارس ، ذلك الفارس الوهمي الذي يحارب الهواء بسيفه الوهمي المصنوع من السكر و الحلاوة ،
ثم نراها جالسة على العجلة الحربية تحكم العالم هل قلت لكم من قبل أن الكتابة النسوية في هذه المجموعة لها نكهة مختلفة ، إذ تقول للقارئ إن المرأة هي محور الكون ، و ليس أدل على هذا سوى الاهداء الذي صدرت به الكاتبة هذه القصة أليست عوالم هذه النصوص جميعها تتحدث عن ألم الانثى و عشقها و حريتها ، و في هذه القصة تطلق الراوية اسر الجوادين كي ينالا لحظة عشق حميمية فيكون جزاءها صفعة قوية ، كأننا لا نستطيع العشق طالما لم ننال حريتنا بعد ، و علينا أن نصهل و نصهل من أجلها ، و الغريبة أن تُنهي الكاتبة قصتها بأفعال مضارعة كأنها رغم كل هذا القهر تبحث عن المستقبل و الحرية .
فعل وحيد و مائة و خمسون حلماً
القصص هنا في هذه المجموعة ، تحتفي بالأحلام و الأمال رغم قسوة الواقع ، و يتوارى الفعل ، الفعل الذي نلاحظه في كسر صندوق أو سقوط حصان أو اختفاء حبيب ، الفعل يبدو دائماً محاولة لانتزاع انتصار ما ينتهي باحباط جديد ، أما الحدث فهو يدور في دائرة الحياة ، رتيباً هيناً ، كأنه يدفعنا لمواجهة هواءً بارداً و غابة بلا نهاية ، اشارات ضعيفة يرسلها الحكي عن الولد الذي يطأ الأرض و يطير الخطابات ، الأب المريض الغائب ، البنت حاملة الأحلام مختزنة الفرح داخلها رغم الألم و التي لا تمل من المحاولات ، الرجال هنا يمرون مرور الكرام ، رجل عجوز أو رجل غامض أو شاب يظهر و يختفي ، كل واحد منهم يصنع اكتشافاً ما ثم يختفي أضاءة ما في حياة البنت / البطلة على مدار القصص ، و ها هي تفتح الشباك على الغابة الممتدة بينما هو قابع لا يقدر على فعل شيء .
الأحلام مفرودة عبر المجموعة أمامنا ، لكنها لا تتحقق أبداً إذ تنتظر أن نكتشف أنفسنا لنواجه هذه الغابة أولاً .
رحلة المهمشين
يتجلى في الجزء الثاني من هذه المجموعة ( اهتزازات صغيرة ) رحلة المهمشين عبر الحياة الصعبة القاسية ، و لتتأمل معي شخوص قصص هذا الجزء (الرجل الذي يسن السكاكين – الأطفال يلعبون في القمامة – لأطفال يلعبون حول البركة – البنت المريضة التي تزحف على الأرض – شاي الصباح المر ) و غيرها من الشخصيات / الأبطال الذين ينتمون جميعاً إلى المهمشين ، الباحثين عن هويتهم وسط زخم التغيرات المتتالية ، و لهذا كان من الطبيعي أن ينتهي هذا الجزء بالسؤال ، ماذا يكون اللون ؟ ماذا يكون لون لوحة الحياة العبثية التي نحياها ، شاي الصباح المر / الأسود ، عيون البنت / الأخضر ، الدم المحروق / البني ، التراب / الرمادي ، شعاع الشمس / الأصفر ، رماد السيجارة / الرمادي ، هذه ألوان رحلة المهمشين ، تحولها الكاتبة برشاقة إلى فزورة لا تتجاوز الكلمات الأربع ، فحزر ماذا يكون اللون ؟ ماذا يكون ؟! استفهام يساوي العبث و تعجب يساوي الدهشة ، فهذه اللوحة غطت وجوهنا جميعاً و خيبتنا جميعاً .