محمود عبد الشكور
أجمل ما تقدمه رواية “أطياف كاميليا” لقارئها هو زوايا الرؤية المختلفة لشخصياتها، ورسمها البارع لتناقضاتها الداخلية، مع وضع مسافة ضرورية للتأمل، وتعاطف واضح مع نقاط الضعف الإنسانية، وانحياز لا جدل فيه للحق في الإختيار.
رواية “أطياف كاميليا” لمؤلفتها نورا ناجي، والصادرة عن دار الشروق، تكشف أيضا عن قدرة كاتبتها على السرد الشيق المتماسك، والبناء الذكي للنص، سواء من خلال الراوي العارف، أو الأصوات المتعددة، الاثنان يتكاملان في فتح خزانة الأسرار المحجوبة، يكثفان الزمن، وينتقلان بسلاسة عبر الأجيال، لا تتوه معالم الشخصيات رغم كثرتها، ولا تتوارى التفاصيل رغم دقتها.
لعل أبرز ما يميز الشخصيات درجة ما من الاغتراب، تصل الى ذروتها مع كاميليا الطيف الغائب والحاضر بمذكرات مكتوبة، اختفت كاميليا فجأة بعد أن سئمت حياتها، كاميليا أخرى، هي ابنة أخيها، تعثر على أوراق عمتها، تكشف الأوراق أزمة حب وأزمة تحقق، تتقاطع مع المذكرات شهادات شقيق كاميليا الغائبة، وزوجة شقيقها، وزوج كاميليا، الرواي العارف يملأ الثغرات، وينتقل بين الأزمنة والأجيال.
هي في جوهرها رحلة للتحقق بين جيل كاميليا العمة الغائبة، وجيل كاميليا ابنة الأخ الحاضرة، كل طرف يحكي وجهة نظره، والأسرة تصيبها لعنة فتبدد الحكايات، تجمعها نورا ناجي من جديد، لا تضيع تجربة كاميليا الغائبة سدى، كاميليا الشابة تستفيد منها، تعيد إنتاج حياتها بصورة أفضل، تختار أيضا ولكن بشكل أقل اضطرابا، ظنت كاميليا الصغيرة أن عمتها الغائبة كاميليا قد ذابت واختفت في المرآة، ظنت أنها تعكس حياتها، ولكنها ستكتشف أن أحدا لا يمكن أن يشبه الآخر، ولا يمكن أن يكرر تجربته، يستطيع فقط أن يستفيد منها، نحن مرايا لأنفسنا وليس للآخرين.
تترك نورا ناجي للقارئ أن يتعاطف مع ضعفنا ومع اختياراتنا، ليس ضعف ومعاناة كاميليا الغائبة فحسب، ولكن أيضا مع اختيارات الجميع، لا تتعامل المؤلفة مع السطح، نرى السلوك أولا، ثم تكشف دوافعه، يختلف الحكم والمعنى، من طنطا الى القاهرة وبالعكس، نبدو فعلا أمام عالمين مختلفين، يبدو الإنسان، وهذا هو المعنى الأعمق في الرواية، خارج دائرة التوازن تماما إذا لم يتحقق على النحو الذي يريده، تنقصه أشياء كثيرة، لعلها رواية عن التحقق بكل مستوياته، في الحب وفي العمل، في الفن وفي مجال العائلة والأسرة.
غياب كاميليا العمة جعل الصورة أوضح أمام كاميليا ابنة الأخ، غيابها وضع الشخصيات لأول مرة على كرسي الإعتراف، صارت النظرة أعمق، هذه أيضا رواية عن الطبيعة الإنسانية الملتبسة، الشيء وضده، المغامرة والخوف منها، الحب والكراهية، الحياة لعبة شاقة، لا يحسمها إلا الموت.
أحد المفاتيح كذلك فكرة القيود التي تحاصرنا منذ الميلاد، كاميليا العمة هي التي تقطع الحبل السري الذي ولدت به كاميليا ابنة أخيها، سيتحقق هذا الأمر مرة أخرى مجازيا عندما تقطع مذكرات العمة قيود كاميليا ابنة الأخ مع أسرتها وعالمها الخانق، ستحررها بالتجربة، وستجعلها تختار بحرية أكبر.
نفتقد في الرواية صوت حبيب كاميليا العمة، الرسام الشهير الذي أحبته، هذا صوت هام، لأنه هو الذي يغير حياة كاميليا، شهادته تكمل صورة كاميليا، وغيابه يخدش فكرة زوايا الرؤية المختلفة، واكتشاف مأزق الضعف الإنساني، أدهشني أيضا أن كاميليا ابنة الأخ أقل قدرة على المغامرة، وأكثر محافظة من العمة كاميليا، ربما يمثل هذا الأمر طبيعة العصر والزمن، أكثر مما يمثل الشخصيات والأفراد.
لن نعرف مصير كاميليا العمة التي ذهبت إلى حيث الراحة والسكون، وتركت ابنة أخيها تخوض تجربة جديدة. في قلب معنى الحكاية أن تكتشف نفسك ومن حولك، وأن تتحرر من قيودك، لكي تكون نفسك، أن تختار بين أن تكون مثل البلشون الملون الحزين والمطارد بجماله، وبين أن تكون مثل أبي قردان القانع بالأمن والسكون على فروع الأشجار.