أصابع لم يرها مرة أخرى..سرديات الومضة بين الشعر والحياة

atef abd almageed
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أحمد رجب شلتوت

 تندرج مجموعة “أصابع لم يرها أحد مرة أخرى” لعاطف محمد عبد المجيد “الدار المصرية للطباعة والترجمة والنشر، القاهرة 2023” ضمن مشروع واعٍ يتبنى جنس القصة القصيرة جداً أو ما يُعرف بـ “القصة الومضة”. يُقر المؤلف في مقدمته أنه ينحاز للتكثيف، ينفر من المطولات، ويجد في النص القصير فضاءً لإيصال شحنات وجدانية وفكرية خاطفة في أقل عدد من الكلمات.                                 هذا الوعي يحدد مسار القراءة، فنحن أمام نصوص تُبنى على الاقتصاد اللغوي، والإيحاء الدلالي، وترك فراغات واسعة لخيال القارئ.

يضم الكتاب عدداً  كبيراً من النصوص القصيرة جداً، تتنوع بين الحوار والمشهد، بين السرد الشذري والالتقاطة الشعرية، لكنها تلتقي جميعًا في كونها ترسم بورتريهًا للإنسان في علاقاته الأشد حميمية وتصدعها.

دهشة العنوان

 يحمل عنوان المجموعة  القصصية “أصابع لم يرها مرة أخرى” شحنة رمزية مكثفة منذ الوهلة الأولى، فالأصابع ليست مجرد عضو جسدي، بل هي في الذاكرة الثقافية والرمزية مرادف للحسّ واللمس والكتابة والعزف، أي مرادف للحياة ذاتها في بعدها المادي والروحي. حين يقول الكاتب على لسان أحد أبطاله: “ذات مرة أخـبرهـا أنه يعرف المرأة الجميلة من أصابعها. بعدهـا لم يرَ أصابعها مرة أخرى”، فإنه يضعنا أمام فقد مزدوج: فقد الجمال وفقد الحضور. الأصابع هنا تتحول إلى علامة على الغياب، وعلى انكسار الوصل بين الذات والآخر. والعنوان نفسه نصّ مكثف يحمل جوهر المجموعة. الأصابع ترمز إلى اللمس، القرب، الحميمية، لكن إضافتها إلى صيغة النفي (“لم يرها أحد”) تُحوّلها إلى أيقونة للغياب.          كلمة “مرة أخرى” تضاعف الإحساس باستحالة التكرار، فما مضى لن يعود. العنوان بذلك يختزل فلسفة المجموعة: التقاط اللحظة العاطفية الهاربة قبل أن تنزلق إلى العدم.

 واللافت أن الكاتب لا يضع عناوين فرعية للنصوص، بل يتركها في شكل شذرات متتابعة، بينما يقسم الكتاب إلى أربعة أقسام كبرى، هذا التقسيم يمنح القارئ خريطة إرشادية للقراءة، لكن النصوص في جوهرها تظل مفتوحة على تأويلات متعددة.

 القسم الأول، “كل ما يبدأ ينتهي” وفيه يفتتح الكاتب النصوص بالإقرار بأن كل بداية محكومة بنهايتها. النصوص هنا مليئة بصور الانفصال، وبإحساس أن الحب لا يكتمل أبدًا.

    في القسم الثاني، “كيف يحدث هذا؟”  تظهر الدهشة،  فكيف يتحول الحب إلى صراع؟ كيف ينهار الجمال؟ كيف يتبدد الحلم؟ النصوص لا تقدم إجابات، بل تترك القارئ في مواجهة حيرته الخاصة.

 في القسم الثالث، “علاقات أخرى”، يوسع الكاتب يوسع الدائرة، فليست علاقة واحدة، بل علاقات متعددة تعكس نماذج مختلفة من الحب والخيانة والفقد. هنا يتأكد أن التجربة ليست فردية بل إنسانية عامة.

 فيما تعلن نصوص القسم الرابع، “وحده..مرة أخرى” أن الفرد يبقى وحيدًا رغم كل العلاقات، رغم كل التجارب. وكأن الكتاب كله رحلة تبدأ بالحب وتنتهي بالوحدة، مرورًا بالخذلان والغياب.

الشعر يكتب القصة

 من المهم الإشارة إلى أن عاطف محمد عبد المجيد شاعر قبل أن يكون قاصًا، وقد أصدر نحو عشرين مجموعة شعرية، وهو ما ينعكس بقوة على بنية ولغة هذه النصوص. نحن لا نقرأ قصصًا بالمعنى التقليدي، بل نصوصًا ومضية تتأسس على أربعة مرتكزات، أولها التكثيف، فنجد الجملة القصيرة، المشهد الخاطف، ثم الإيقاع الداخلي حيث نلمح توازيات موسيقية وتكرارات تخلق إيقاعًا خاصًا، ثم الانزياح الشعري، فكثير من الجمل تحفر في المنطقة الرمزية والاستعارية أكثر من المنطقة السردية الخالصة، وأخيرا

غياب الحبكة التقليدية، فلا نجد بداية ووسطًا ونهاية، بل لحظات مشهدية تشبه ومضات البرق.

 هذا التداخل يجعل النصوص أقرب إلى “قصيدة نثر سردية” أو “ومضة قصصية”، وهو جنس أدبي يزداد حضوره في الكتابة العربية المعاصرة.

بلاغة الغياب

 تقوم الجمالية الأساسية في المجموعة على بلاغة الغياب. فكل نص تقريبًا يحضر فيه ما هو ناقص، ما هو غير مكتمل، حب ينكسر، لقاء يتأخر، رسالة لا تصل، مكالمة تُقطع، أصابع لا تُرى مرة أخرى. هذه البلاغة تصنع توترًا دائمًا بين المرئي والمخفي، بين ما يُقال وما يُترك بياضًا، اللغة هنا مشحونة بطاقة شعرية واضحة فيزيد الاعتماد على الصور الاستعارية “الأصابع علامة للجمال، الغياب موت، الهاتف ذاكرة للحب”، والاقتصاد في الوصف واللجوء إلى الإيحاء “الجملة القصيرة كثيرًا ما تفتح مساحة واسعة للتأويل”، ثم التكرار بوصفه أسلوبًا موسيقيًا ودلاليًا، والكاتب يتقن فن الإيجاز الكثيف، وهو ما يجعل النصوص قريبة من “الهايكو” أو “الومضة الشعرية”، لكنها في الوقت نفسه تنبني على مشهدية سردية تمنحها خصوصيتها.

الاغتراب العاطفي

تدور معظم النصوص حول العلاقة بين الرجل والمرأة. وتُقدّمها في صور مختلفة، حب متأخر، خيانة، افتراق، عتاب، حنين. لكن القاسم المشترك بينها هو الاغتراب العاطفي، فالشخصيات دائمًا في حالة بحث عن الآخر، وفي حالة خوف من فقدانه أو من خيانته. المرأة غالبًا فاعلة في هذه النصوص؛ هي من تهجر أو تخون أو تتذكر أو تتألم. الرجل في المقابل يتأرجح بين العاشق المستسلم والمصدوم والمهزوم.

والمرأة هنا كائن متناقض يجمع بين الحضور والخذلان. ففي أحد النصوص نقرأ:

 “قال لها الطبيب النفسي: حبكِ له سبب فشلكِ الذريع. بعد ذلك اضطرت للعودة إليه مرة أخرى”،  المرأة هنا ضحية ومذنبة معًا، حبها سبب مرضها، لكنه أيضًا دواؤها الوحيد.                        القصة تلتقط ببراعة المفارقة التي تحكم العلاقة العاطفية، القوة التي تدمّرنا هي نفسها التي ننشد فيها الخلاص.

قطار خاطئ

يتكرر حضور الزمن في هيئة خطأ أو خسارة. في نص دال، “لم تستطع ذاكرته أن تحتفظ بأسماء المحطات، حتى وصل إلى محطته الأخيرة، فاكتشف أنه استقل القطار الخطأ”، هكذا تكثف القصة تجربة حياة بأكملها في صورة قطار. الخطأ ليس في محطة عابرة بل في اختيار القطار نفسه، أي أن المسار كله محكوم بالخطيئة. هذا النص يعكس هاجس الندم الذي يتسرب إلى كثير من الومضات، الحياة سلسلة قرارات خاطئة، لا يُكتشف خطؤها إلا عند النهاية.

رقمنة اليومي

   تستثمر النصوص تفاصيل من حياتنا الرقمية اليومية. الحبيب يرسل رسالة صباحية، والحبيبة تنتظر إشعارًا لم يأتِ. “أول ما يفعله صباحًا، أن يلتقط هاتفه ليرسل إليها: صباح الخير يا حبيبتي. لكنها كانت تنتظر أن يقولها بغير الرسالة” النص هنا يفضح زيف العاطفة المرقمنة، فالرسالة تصل، لكن غياب الصوت والجسد يحولها إلى علامة ناقصة. التكنولوجيا تُقرّب، لكنها في الوقت نفسه تفضح المسافة.

   ومن يقرأ هذه النصوص لا يمكن أن يغفل أن كاتبها شاعر بالأساس. يظهر  ذلك في حساسية خاصة تجاه التفاصيل الصغيرة “أصابع، نغمة هاتف، كلمة”، والميل إلى التخييل الرمزي أكثر من السرد الواقعي. وهذا لا يعيب النصوص، فكتابة “اليومي” بلغة شاعرية تحوله إلى حدث وجودي، والشعر هنا ليس زينة لغوية، بل هو بنية تفكير، هو الطريقة التي يرى بها الكاتب العالم.

  وأخيرا فإن “أصابع لم يرها مرة أخرى”، بناء سردي متكامل، يحاول أن يؤسس شعريته الخاصة من خلال التكثيف والمفارقة والاشتباك مع تفاصيل الحياة المعاصرة. النصوص تبدو في ظاهرها حكايات عاطفية صغيرة، لكنها في جوهرها مرايا لأسئلة وجودية: الغياب، الزمن، الموت، هشاشة الحب، وتحوّل العاطفة في زمن التكنولوجيا. وفيها نجح عاطف محمد عبد المجيد في أن يحوّل الومضة إلى أداة لتشريح الروح المعاصرة، وأن يجعل من النصوص الصغيرة مراثٍ كبيرة للإنسان ولحظاته التي تتسرب دون رجعة.

 

مقالات من نفس القسم