أسرار في حياة شابلن ..

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام
أحمد فاضل * سوف يبقى إلى الأبد في ذاكرتنا ذلك الضئيل الجسم الذي اضحكنا حتى سالت من عيوننا الدموع ، وهزتنا صعلكته أيام السينما الصامتة ، انه اليساري النزعة الذي عاش في كنف الرأسمالية واستلهم من الفقر والطفولة المنكوبة التي كانت تقبع في شوارع لندن الخلفية مناظر مؤلمة لأفلامه ومسرحياته ، وكان يفترض ان رثاءه لاينقطع طالما ظلت هذه الصور الكئيبة تحاصره مذ كان في السابعة عندما سقط والده ميتا بسبب ادمانه للكحول ، ودخوله دار الايتام على ذمة القضية نفسها والتي كان يقول عنها وعن حياته دائما انها " ديكنزية النمط " * لايعلم متى يغادرها .

في احدث كتاب للطبيب النفسي المعروف الدكتور ” ستيفن وايزمان” قال ان مصدر الحزن الحقيقي لشابلن لم يكن في فقدان والده فقط بل في فقدانه لوالدته بالدرجة الاولى ، لأن الذي فقده في “هانا ” لايعوض ، وقد زعم وايزمان ان هانا ونتيجة للفقرالذي عانت منه عملت كمومس في شبابها وتحملت نتيجة ذلك عواقب مأساوية على المدى البعيد ، وقد أصيبت بالزهري وهو مرض لايمكن الشفاء منه بسهولة في آواخر القرن التاسع عشر وأدى الى جنونها كما يشهد ذلك شابلن نفسه عندما كان في التاسعة عشر من العمر ولم يكن قادرا على نسيانها .

شابلن في سيرته الذاتية الخاصة التي نشرت عام 1964 كان قد ضم فصلا مؤثرا جدا عن عذابات طفولته في جنوب لندن حيث نسب ان الإضمحلال العقلي لوالدته والسجن لاحقا ناتج عن سوء التغذية لانها حرمت على نفسها الكثير من المواد الغذائية من اجل إطعام اطفالها ، وهناك الكثير من التفاصيل لم يكشف عنها في سيرته لانها وكما يقول شابلن يخجل عن ذكرها ،ونتيجة لذلك حاولت الابنة الكبرى لشابلن الممثلة المشهورة “جيرالدين ” ان تحظر نشر السيرة وذلك لما تظمنته من تفاصيل محزنة لحياة جدتها لكنها ادركت ان المعلومات الجديدة التي اكتشفها وايزمان من شأنها ان تلقي الضوء على مصدر لايقدر بثمن لعبقرية شارلي شابلن .

هانا ابنة الاسكافي المتحدرة من اصول غجرية قالت عن نفسها انها هربت من المنزل لتعمل في أحد المسارح بأسم فيكتوريا فتعرفت على شارلي شابلن الأب وهو نجل جزار فعاشت معه قصة حب وكان كلاهما يلعبان ادوارا هزلية في بعض الاوبرات الشعبية ، شارلي الأب كان دائما حالما مسحورا حتى ان هانا كانت تقول عنه انه يشبه الامبراطور الفرنسي نابليون بينما كنت احلم أن أكون جوزفين زوجته ، لكن بعد ثلاث سنوات تخلت عنه لأنه لايزال مراهقا حسب زعمها ولاذت بالفرار الى جنوب افريقيا مع عاشق آخر هو ” سيدني هوكس ” محتال ادعى انه من الطبقة الارستقراطية الغنية وله أراض شاسعة هناك ، لكنه في الحقيقة كما يقول وايزمان كان قوادا يقتاد الفتيات الى تلك البلاد الافريقية المستعمرة من قبل بريطانيا آنذاك ، خاصة وانها مزدهرة بمناجم الذهب ويجبر العديد امثالها من الفتيات البسيطات للعمل في الدعارة وقاعات الرقص خدمة لعمال المناجم المتعطشون للجنس فكانت الحياة بين الباحثين عن الحظ الذين هرعوا الى تلك البقعة من التراب الممزوج بالذهب مقصدا لفتيات عديدات من جميع انحاء العالم ، الا ان تلك الحياة كانت صعبة وخطيرة لاترحم .

هانا بعد ان جربت تلك الحياة القاسية عادت الى موطنها انكلترا عام 1884بعد ان فاض بها الكيل ، باحثة في الوقت نفسه عن حبيبها القديم شابلن الأب الذي التقت به مرة ثانية فاستأنف الاثنان علاقتهما الرومانسية وعملا معا على المسرح في لندن ، وما ان حل العام 1886 إلا وكانا قد تزوجا وبعد مضي ثلاثة سنوات ولد عبقري الكوميديا شارلي شابلن الذي ورث عن والدته الفانتازيا ووالده القوة الدافعة لفنه ، لكنه عشق والدته فكان يقول عنها انها لذيذة وجميلة بعيون ساحرة وشعر يتوهج بالوان الشمس عند الأصيل ويتذكر ادوارها باعتزاز على المسرح بملابسها المخملية وكيف كانت تجسد مشاهد خيالية لواحدة من بطلات القرن السابع عشر ” جوين ” عشيقة ” تشارلز الثاني ” ، لكنها ومع كل ذلك الحب الذي يكنه لها شابلن الابن لم تكن زوجة وفية كما كان يقول ، اذ سرعان ما تركت والده مرة اخرى مع شخص اكثر شهرة هو ” ليو درايدن ” بعد ان انجبت ابنا ثالثا .

هانا الآن لديها ثلاثة اولاد من ثلاثة رجال وبعد ان هجرها درايدن اضطرت لقبول وظائف صغيرة في المسارح لإطعام طفليها حتى انها باعت ملابسها لدفع ايجار الشقة التي كانت تسكنها ، وتفاقمت عليها الامراض حتى داهمها صداع نصفي سبب لها العمى المؤقت رافقه هلوسات مرعبة واستمر حالها هذا قرابة شهر كامل جعل من المستحيل بالنسبة لها الاعتناء بهؤلاء الفتيان فنقلتهم الى ملجأ للأيتام ولما تعافت عادت اليهم لتأخذهم من ذلك الملجأ الذي قال عنه شارلي انه يكرهه أشد الكره لكنه لاحظ تغيرا قد طرأ على والدته فبدت اكثر هدوءا وكياسة عن ذي قبل ، فعكفت على قراءة الكتاب المقدس في محاولة منها لمحو ذنوبها وتناولها للدين كمخرج من امراضها واعتلال صحتها ، تشارلي بطبيعة الحال لم تكن لديه فكرة وهو في السابعة من العمر عن هذه المرحلة المهمة التي تمر بها والدته ووفقا لكاتب سيرته الذاتية فقد حاولت هانا ان تخفي سر مرضها الذي كشفته السجلات الطبية المعاصرة ، حيث تم في عام 1898 تشخيص حالتها على انه ” السفلس ” تصاحبه نوبات من شرود الذهن خاصة في مرحلته الثالثة كما تؤكد هذه السجلات .

وايزمان قال ان الزهري من شأنه ايضا ان يكون قد سبب لها صداعا رهيبا لأنه هو ايضا من اعراض المرض ، ولأن هانا تركت نفسها دون علاج فان هذا المرض من شأنه ان يحدث خسائر كبيرة لديها ، الا انها ناضلت من اجل اطفالها وارسلت رسالة الى شارلي الأب تبلغه بحالها فأحس بتقصيره وخصص لها مبلغا شهريا تعتاش عليه بجانب ماكنة الخياطة التي كانت تساعدها كمورد مالي آخر للعيش ، واستأجرت لها ولاولادها غرفة علوية رخيصة بجوار المسلخ في لندن كيننجتون ، هذا الى جانب تشارلي الشاب الذي كان يساهم في دخل الأسرة عن طريق ما كان يقدمه من اعمال .

لم تكن الايام القادمة باسعد من سابقتها فقد توفي والده عام 1901 نتيجة لتليف كبده عن عمر يناهز ال 37 عاما ودفن في مدافن الفقراء ، بعد ذلك بعامين اصيبت والدته بانهيار عصبي ونقلت الى المستشفى فقد ازدادت عليها وطأة المرض حتى كانت تهذي وكان كل من رآها يحسبها سكرانة لفرط تمايلها وعدم سيطرتها على جسدها المترنح ، لم يكن امام شارلي سوى العمل بعد بلوغه التاسعة عشر من العمر لإنقاذ نفسه واخوته من هذا البؤس وفي غضون عام وجدها تجول في الشوارع مرة اخرى فاعادها الى المستشفى ، انها الآن اكثر شفقة وتشارلي بالكاد يتحمل زيارتها لأن منظرها يصيبه بالألم ومع كل تلك المعاناة فقد القى بنفسه في العمل وساح البلاد ومر على قاعات الموسيقى ليتعلم منها كيف يمشي ويمزج تلك الحركات الكوميدية التهريجية بايقاعات موسيقية سريعة ، وعلى الرغم من انه تعرض لنكسات عديدة في كثير من الاحيان وصادف معارضة واستهجانا من هنا وهناك الا انه وفي النهاية استطاع ان يسقط على عقد مربح مع منتج كبير يدعى ” فريد كارنو ” وكون موهبته ليست في موضع شك فقد تأثرت علاقاته مع النساء بشكل دائم فلم تكن لديه أية فكرة عن كيفية معاملة البنات الا مع ” بيكادللي ” المومس اللعوب ، لم يكن حبا بقدر ماكان قضاء وطر لكنه واخيرا سقط في حبائل عارضة الازياء ” هيتي كيلي ” عام 1908 وصرح لها انه خائف من هذا الحب فقد يشغله عن مشواره الفني الذي بدأه خطوة خطوة ، فرفضته هيتي فقرر ان يسافر الى اميركا بعد ان حصل على تذكرة سفر واوصى شقيقه الاكبر برعاية والدته واشقاءه .

كانت هذه آخر ايامه مع فريد كارنو الذي لم يستطع ان يجمع معه ثروة تحقق ماكان يصبو اليه من شهرة ومجد .

عندما لاحت له احواض مانهاتن عرف انه في امريكا اخيرا فرفع قبعته وهو على السقينة التي اقلته ملوحا وصاح : ( اخيرا ..امريكا ..أنا قادم اليك لاجعل على شفاه كل رجل وامرأة وطفل اسمي .. تشارلز سبنسر شابلن ..) .

كانت امريكا حلمه الكبير فقام بجولة من الساحل الى الساحل وما ان حل العام 1912 حتى كان لقاءه مع المنتج الاسطوري ” سينتت ” الذي كان يدير استديوهات ” كيستون ” الشهيرة في نيويورك ، فجذبه عن طريق مضاعفة راتبه وهكذا في يوم ممطر وعاصف وفد على شركة كيستون شابلن بجسمه الهزيل وقبعته التي لم تغادره ابدا مفتتحا اول أفلامه الصامتة وبهيئة جاذبة للضحك مع الكوميدي ” ماك سوين ” وبشارب مصطنع وسروال طويل يستقر على حذاء كبير لايتلائم مع حجم قدمه الصغير ، وعصا يهزها كلما وقع في مأزق وعندما نظر الى نفسه في المرآة وجد ذلك التحول الكبير الذي من شأنه ان يجعل له شهرة عالمية لم يكن يحلم بها .

شابلن كان يعلم في دواخل نفسه ان ذلك الصعلوك الصغير سوف يتمكن اخيرا من قلوب الناس الذين سيفدون لمشاهدة هذه الروح الفكاهية وتلك التعابير الانسانية التي تشكّلت منذ طفولته المضطربة مستعيدا تلك اللحظات التي عاشها في قاعات الموسيقى الإنكليزية وشعوره الحاد بالخسارة عندما فصلته الحياة عن والدته .

كان العام 1921 عاما مميزا حيث حقق شابلن ما كان يصبو اليه من شهرة فقد حققت افلامه ما لم تحققه اية افلام اخرى حتى كانت صالات العرض تغص بالمتفرجين لرؤية هذه الظاهرة المملوءة ضحكا والممزوجة حزنا ، وهو في زحمة الشهرة هذه لم ينسى والدته واخوته فحاول ان يجمع شملهم معه فنجح في مسعاه على الرغم من فقدان شقيقه الثالث ” ويلر ” لكنه وجد السعادة اخيرا فاشترى لوالدته منزلا في ولاية كاليفورنيا وخصص لها من يتابع شؤونها ويقدم الرعاية الكاملة لها .

كانت افلامه كما يقول وايزمان في سيرته له مجرد محاكاة لمعاناته ففي عام 1925 قدم فيلما يكاد يكون وحيا لما عاشته والدته في جنوب افريقيا ، مازجا بين البحث عن الذهب وتلك الحياة التي كانت تحياها ويعيشها العشرات امثالها ، وكان لفيلم ” اضواء المدينة ” صداه الواسع في قلوب من احب شارلي شابلن وهو في غمرة افراحه بانتصاراته فجع بوفاة والدته عام 1928 عن عمر ناهز ال65 عاما والتي كان لها الأثر الكبير في إبراز طاقاته المكنونة وعبقريته ، وبعد كل الذي عاناه لم يستطع شابلن ان يستقر في حياته خاصة العاطفية منها حتى بعد انقضاء سنوات على زواجه الأول فتزوج ثلاثة منهم ” ملدريد هاريس ” التي استمر معها 16 عاما و ” لينا غراي ” و ” بوليت غودار ” لكنه في النهاية اعاد الحياة الأسرية الى سعادة جديدة ففي عام 1943 تزوج من الشابة ” أونا ” ابنة الكاتب المسرحي الكبير ” يوجين أونيل ” وأنجب منها ثمانية اطفال واحدة منهم هي ” جيرالدين ” النجمة الكبيرة فيما بعد .

الدكتور وايزمان وهو يطوي آخر اوراق كتابه عن شابلن قال : ( استثنائية شابلن قد تدمي القلوب لكنها اشجع من كل الوجوه التي عرفتها ، انها تختبئ خلف قصة حقيقية مخيفة كانت نهايتها كوميديا جميلة عشناها مع هذا الكائن شارلي ) .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* شاعر وناقد عراقي

[email protected]

 

خاص الكتابة

مقالات من نفس القسم