أستاذ صداع

art
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

شيماء مصطفى

إذا أردته، يمكنك بسهولةٍ جدًّا أن تجده على الرصيف، يجادل المارة، ويسرد حكايات عن شخوصٍ صادفهم، قرأ عنهم، أو عاشرهم، فيجعلك تكتشف أنك ما زلت لا تعرفهم، بينما هو يعرف. يتألق في وضع النهايات، فيضع أمامك عدة سيناريوهات لحكاية واحدة. أكثر ما يثير فضولي الحكايات التي تُروى عنه، وتلك التي يرددها هو بنفسه. ولكني ما زلتُ أتعجب من أشخاصٍ يجالسونه ويصغون إليه، بينما هناك روايات كتبها مبدعون ما زالت تتوسد الأرفف، وهو يتهافت عليه المريدون، يتركون أعمالهم ليُصغوا إليه. يبدو أن الجميع ما زالوا مهووسين بالحكايات، بحكاياته هو دون غيره.

ذهبتُ إليه، ممسكًا بدفتري وأقلامي، وددت لو أختبره بعيدًا عن آراء وانطباعات مُريديه. جلستُ بمقهى يقع بالقرب من مجلسه. بدا لي مغرورًا بينهم. قلتُ في نفسي: لو أنني نجحتُ في تجريده من أتباعه لأصبح عاديًّا جدًّا مثلهم.

بسخرية ناديته:
– يا عم، يا بتاع الحكايات، ما تجيبش سيرتي والنبي.

فصعقني بسخرية أكبر:
– “القهوة لا تُبدع حكايات، ولا التبغ يصنع كاتبًا.”

ذهلتُ، هل كان يراقبني؟ يتبعني؟ هل أحصى أعقاب السجائر التي دخنتها؟ هل تطلع في فنجان القهوة الذي احتسيت؟
أخفيتُ سجارتي، وتركتُ قهوتي، ووقفتُ قبالته. وبغضبٍ قذفته:
– من أنت لتحكي عنا نحن الكتّاب؟ هل قرأتَ؟ هل أمسكتَ بالقلم يومًا وكتبت؟ أقصى ما يمكنك فعله أن تُلقي بحكاياتٍ كتبناها نحن على مسامع العامة. ولأني جالستُ كبار الأدباء والمثقفين، وأدمنتُ مؤلفاتهم، يمكنني بسهولة أن أخبرك بموضع كل حكايةٍ ترويها من داخل أغلفة رواياتهم.

تجاهلني، وجلس يكمل للمهووسين حكاياته. زاد تجاهله من ثورتي، خاصةً كونه ملتفًّا بأتباعه، وكوني مدثرًا بوحدتي. فكرتُ في طريقة تكشف زيفه أمامهم. ماذا لو جالستُهم؟ ماذا لو شاركتُهم حكاياتهم؟ ماذا لو فصلتُ بيننا بحكاية؟

اقترحتُ عليه لعبةً نبدأها أمامهم، والرابح هو من يستطيع نسج خيوط نهاية مثيرة يحبها الناس. تملّص، بدا أنه لا يجيد اللعب، ولا يعرف كيف تُصاغ النهايات المشوقة. ألحَّ عليه أتباعه لمنافستي، ظننتُه سينسحب. حينها كنت سأهزمه في عقر داره، وسيعود جمهور القرّاء إلى مؤلفاتنا، وستتوسد رواياتنا أرففًا خشبيةً مزينة بدلًا من أرصفة إسمنتية في طرقات المدينة.

جلس قبالتي، وتحلق حولنا حشدٌ من مريديه. طالبهم بالحياد. أنصتوا له. أراد أن يبدأ، فبدأتُ أنا:

يجلس على الرصيف، يراقب المشهد، ويتابع المارة. ربما يمر طفلٌ فيعاركه، أو كلبٌ ضالّ فيشاكسه، أو مريضٌ خائفٌ فيوهمه، أو مسافرٌ تائهٌ فيضلله، أو شابٌّ فظٌّ فيختبئ منه.
كهلٌ تآكلت أطرافه حتى وصلت حدود الكف، وتجاوزت إلى القدم. اختفت أنفه، وتحشرج صوته. يرتدي قميصًا قاتم اللون لا يستبدله، ونظارةً سوداء تخفي أسرار عينيه. لا شيء يُوحي بأنه ما زال يتنفس، إلا لسانٌ يظنونه يبدع الحكايات.

قاطعني أحدهم، استوقفني وبدأ يوبخني. منعه هو، وذكّره أنها مجرد لعبة. جاء دوره ليكمل الحكاية فقال:

بل كان عاديًّا كباقي البشر، لديه أحلامٌ ترافقه في تسكعه بالطرقات، وقلمٌ يدون به الذكريات. مهووسًا بالتبغ والقهوة أكثر من هوسه بالحكايات. له أطراف كاملة، وعائلة عاقلة، وحكايات بنهايات عادلة. عنيدًا يكتب عن كل المحظورات، لا يعترف بالمسافات ولا بالفوارق بين الطبقات. يحكي عن كل شيءٍ يشاهده، ينبش في كل مدثرٍ يجهله. يظن نفسه البطل، وأنه قادر على التحكم في صياغة النهايات…

توقف عن الحكايات. اعتذرتُ له، ورجوتُه أن يكمل. أكدتُ له أننا نحن من نكتب النهايات.

ابتسم وقال لي:
– ما زلتَ صغيرًا لم تنضج بعد.

طلب مني دفتري. بتوترٍ ناولته إياه. فتحه، تأمله، قرأني، ثم أعاده إلي. ذكرني بدوري، فحكايتنا لم تنته بعد. قلتُ له:
– كان يجب أن يتوقف عن الحكايات. كان يجب ألا ينبش داخل سلة المهملات. كان يجب أن يكون مثلهم، يكتب ما يريدون، ويحكي ما يودون. كان ينبغي أن يكون…

قاطعنا ضابط حضر بناءً على بلاغٍ من مصدر مجهول، يخبرهم فيه بوجود مختلٍّ عقليًّا ينتهك حرمة الطرقات، ويروي حكاياتٍ لا أساس لها من الصحة، تُزعج السلطات، وتنشر الفوضى والاضطرابات، إضافةً إلى ترويجه الأكاذيب والشائعات.

بابتسامة هادئة، وعلى طريقة برايل واهب النور، قال لي:
– الآن أعود مطمئنًا بأن حكايتي لن تعود معي.

مقالات من نفس القسم

علي الدكروري
تراب الحكايات
موقع الكتابة

المارد

amr al batta
تراب الحكايات
موقع الكتابة

الهانم