محمد أبو زيد
يذكر كل أبناء جيلى هذا الموعد جيداً، مساء كل خميس فى نقابة الصحفيين. قبل أن تدق السابعة مساء بدقائق كنت أراهم واحداً تلو الآخر يتقاطرون من شوارع مختلفة لنصل جميعاً فى الموعد. نصعد إلى الدور الثانى فنجد الأستاذ محمد جبريل، جالساً ينتظرنا، فى يده كتاب يقرأه، وأمامه قلم رصاص يضع به خطوطاً أسفل بعض الأسطر، أو ملحوظات سريعة على الهامش، بمجرد أن ندخل يغلق الكتاب، ثم يرحب بنا، يطلب لنفسه شاياً بالحليب ويطلب لكل واحد منا ما يريد.. ثم تبدأ «ندوة جبريل الثقافية» التى استمرت قرابة الثلاثين عاماً.
فى هذه الندوة العامرة، رأيت وتعرفت على معظم أبناء جيلى، الطاهر شرقاوى، هانى عبد المريد، محمد صلاح العزب، محمد الفخرانى، أحمد شافعى، محمد عبد النبى، محمد أبو الدهب، أحمد عامر، عربى كمال، منال السيد، صبحى شحاته، هانى صلاح، ياسمين مجدى، نهى محمود، سهى زكى، محمد حسين بكر، كما قابلت كتاباً من أجيال سابقة ولاحقة، مثل محمود الحلوانى، ومسعود شومان، ومحمد الحلى والروائى الكبير سيد الوكيل، تعجز المساحة عن ذكر كل الأسماء، وتعجز الذاكرة عن تذكر بقيتها، لكنى أعتقد أنه قل أن تجد كاتباً فى هذه الأجيال لم يمر بالندوة، سواء كان من سكان القاهرة، أو من سكان المحافظات الذين كان يرحب بهم بشكل خاص، حتى لا يشعروا بالغربة.
فى بعض الندوات كنا نناقش بعض الكتب الجديدة الصادرة، لكن فى أغلب الأيام كنا نناقش نصوصنا، يقرأ أحدنا نصه الجديد، ثم تبدأ المناقشة بأن يدلى كل واحد برأيه فى القصة أو القصيدة، مع أو ضد.. فى ورشة أدبية حقيقية وعصف ذهنى ممتع. ولم يكن الأستاذ جبريل يتدخل إلا نادراً، منعاً لأى اشتباك لفظى أو صد هجوم غير مبرر على كاتب فى بداية طريقه، لكنه فى معظم الأحوال يفضل إدارة الحوار تاركاً لنا كل الوقت، وفى بعض الأحيان إذا أعجبه نص كان يأخذه من صاحبه ليفاجئه بعد أسبوعين بنشره فى الصفحة الأدبية بجريدة المساء التى يشرف عليها.
شهدت الندوة جميع انتصاراتنا الأولى الصغيرة، فرحتنا بنشر أول نص، ومناقشة أول كتاب، محاولتنا لتلمس مكان للنشر فى كتاب جماعى أو مجلة أو جريدة، بالإضافة إلى تنمية ذائقتنا النقدية. وقد كان من إنجازات الندوة، كتاب غير دورى أصدرنا منه بعض الأعداد، حمل عنوان «كتاب الندوة»، ضم نصوصنا الأولى، وأتذكر أيضاً أن «نيبو» كان يكتب ويرسم نشرة أدبية بخط يده، تضم قصائد ورسومات له ويوزعها علينا، كما أننا جميعاً ناقشنا أعمالنا الأولى فى الندوة، واحتفينا بها، منها ديوانى الأول، وديوان أحمد شافعى الأول «طريق جانبى ينتهى بنافورة»، ورواية عبد النبى «أطياف حبيسة»، ومجموعة الطاهر شرقاوى «البنت التى تمشط شعرها» ورواية محمد صلاح العزب الأولى «سرداب طويل يجبرك سقفه على الانحناء».. وغيرها الكثير.
كان محمد جبريل مثقفاً حقيقياً، مطلعاً على جميع الفنون، محباً لها، لا يناصب أحدها العداء.. فلم يكن يفرض رأيه على ما يُقرأ أو ما لا يُقرأ.. وقد كانت ندوته هى الندوة الوحيدة وقتها التى تناقش قصيدة النثر والنصوص المفتوحة أو تقبل بها.. فى حين كانت الندوات الأخرى تنظر إليها باعتبارها «رجساً من عمل الشيطان»، بل كانوا ينظرون لندوة جبريل باعتبارها ندوة تناقش أعمالاً تجريبية بلا قواعد فنية.
تغير مكان الندوة أكثر من مرة، من مقر جريدة الجمهورية، إلى نقابة الصحفيين القديمة فى شارع الجلاء، ثم إلى مقرها الجديد فى شارع عبد الخالق ثروت، ولم نتوقف عن حضور الندوة، كنا ننشغل بحيواتنا وأعمالنا، فنتوقف عن الذهاب للندوة، وحين نشعر أننا نفتقد جزءاً عزيزاً من أنفسنا نعود إليها، كنا نشعر أن ثمة حبلاً سرياً يربطنا بها، حتى من توقفوا عن الكتابة كانوا يعودون إليها لكى يتزودوا ببعض الشغف بالكتابة، لكن الرابط الأكبر والأهم الذى ربطنا جميعاً كان هو «محبة» الأستاذ جبريل، الذى لم يكن يمارس معنا سلطة «الكاتب الكبير» الذى يعلم «أولاداً» فى بداية حياتهم، فلم نناقش أبداً أى عمل جديد له، وقلما ذكر أحد أعماله أو طلب من أحدنا أن يقرأ له، لم يجلس يوماً على رأس الطاولة، بل كان يجلس بيننا كواحد من رواد الندوة، والذى لولا شعره الأبيض لما ميزته، وفى بعض الأحيان يترك لأحدنا فرصة إدارة الندوة ويجلس للاستماع إلينا وإلى أفكارنا. وفى كل الأحوال كان يعاملنا كأصدقاء وكأبناء وكـ «زملاء كتابة» دون أى شعور بتعالٍ أو فوقية أو أسبقية. كان أستاذاً حقيقياً.
كنت أكثر حظاً من بعض أصدقاء الندوة، واقتربت من الأستاذ محمد جبريل إنسانياً، زرته فى بيته فى شارع سليمان عزمى بمصر الجديدة، عاملنى بنبل شديد ومحبة فائضة.. وعرفت فيه إنساناً رائعاً محباً للجميع، لا يبخل بوقته ولا بجهده عن مساعدة أى شخص، وقد فعل ذلك معى ومع غيرى مرات عديدة، يفرح عند صدور أى كتاب لأحد أعضاء الندوة كفرحة جد بأحفاده.
وعلى الجانب الإبداعى، لم يكن الأستاذ جبريل يفعل شيئاً غير القراءة والكتابة. وأستطيع أن أقول بكل ثقة أنه أكثر من عرفت حباً للقراءة، فعندما كان يذهب للندوة أو للعمل فى الباص يأخذ كتاباً معه للقراءة أثناء الذهاب والعودة، وحين كنت أزوره فى بيته وأتصفح الكتب فى مكتبته أجد معظمها تمتلئ بهوامشه، وإشاراته وخطوطه، ثم ينهى كل كتاب بإشارة على صفحته الأولى بأنه أنهاه فى هذا الموعد.
أما الكتابة، فكنت كلما زرته أجده منهمكاً فى كتابة عمل جديد، أو مراجعة عمل قيد الطباعة، ورغم أنه لم ينل التكريم الذى يستحقه إلا أن ذلك لم يثنه عن مواصلة الكتابة، كان يعرف أن الوسط الثقافى ملىء بالمجاملة والشللية، لكنه نأى بنفسه عن ذلك، ولم يدخل فى صراعات جانبية بلا طائل، وتجاهل تجاهلهم له.. لم يستفد من صداقته بنجيب محفوظ رغم قربه الشديد منه، وتأليفه كتاباً شديد الأهمية عنه. ولم يتاجر بهذه العلاقة كما فعل كثيرون غيره بعد رحيل صاحب نوبل.. ورغم أنه أحد أبناء جيل الستينيات إلا أن كثيرين لا يحسبونه عليهم، ربما لأنه لا يحب الضجيج، ويفضل العمل فى صمت.
كان محمد جبريل أستاذاً لجيلى وأجيال أخرى قبلى وبعدى، ليس فقط بما علمنا إياه فى «ندوة الخميس»، بل بأخلاقه الرفيعة، ونبله، والبعد عن حروب الوسط الثقافى وإخلاصه الشديد للكتابة دون غيرها ودون اهتمام بأى صراعات هامشية على الجوائز أو السفر أو الترجمات أو حضور المؤتمرات.. وهو الدرس الكبير الذى يجب أن تعيه كل الأجيال.