لكن الريف كمكان تجري فيه أحداث الرواية، لا يجعل من هذه الرواية رواية ريفية، لا يضعها ضمن الأدب الذي اشتغل على الريف كقيمة في طريقها إلى الزوال كما في النماذج اللبنانية من مارون عبود إلى ميخائيل نعيمة إلى أنيس فريحة وإميلي نصر الله (أعطي نماذج لبنانية لأن اطلاعي عليها أوسع من التجارب المصرية أو غيرها من التجارب العربية، ولأن الرواية الريفية اللبنانية تشكل مفصلاً اساسياً في الرواية العربية تماماً كالشعر اللبناني الذي استلهم الريف كنوع من الحنين كما لدى شعراء الهجر، وصولاً إلى نتاج الأخوين منصور وعاصي الرحباني على صعيدي الغناء والمسرح). لا، الريف هنا مجرّد ذريعة للسرد، حجة لقول حكاية وتأليف حبكة.
إنه وسيلة القص وليس غايته كما سبقت الإشارة في الأعمال التي جعلت من الريف أيقونة وفردوساً مفقوداً وفكرة عذراء. ما يدلل على أن الريف هنا مجرّد مكان للقص هو أن الحدث الروائي ليس الريف وقيمه الجمالية والطبيعية والأخلاقية والحياتية عموماً، وإنما العائلة التي يجري رصد مصائرها فرداً فرداً من الآباء إلى البنين. العائلة بوصفها حدث الرواية تخرج هذا العمل من تصنيف الرواية على أنها ريفية ولا سيما أن السرد غالباً ما تركز على هذه العائلة وأفرادها كأن السرد يجري في الداخل من غير أن يقيم شأناً كبيراً للبيئة المحيطة إلا ما لزم أو صعب تجاهله (انتحار لولا مثلاً خالة البطلة سلمى بسبب حملها من دون زواج).
سلالة ومصائر
إذاً، تعيد منصورة عز الدين في ‘وراء الفردوس’ تأليف حياة عائلية تفرقت بالزواج والإنجاب ومشاغل الحياة والعمل وتبديل أماكن العيش وتراكم الزمن. من السهل القول إنها سيرة ذاتية تعيد فيها المؤلفة سرد حياة عائلتها. لكن سهولة كهذه يجب ألا تغري الناقد أو القارئ في ظل غياب معطيات حياتية عن المؤلفة. لهذا من الأسلم تناول الرواية على أنها عمل متخيل مستقل عن حياة الكاتبة حتى لو تقاطعت أحداث معينة مع حياة الكاتبة، غير غافلين عن عبارة فلوبير الشهيرة ‘مدام بوفاري هي أنا’، مقابلينها بشغل رولان بارت على الشخصية الروائية، معتبراً أن ‘الكائن في الرواية هو كائن نصي’. والحال، فإن عز الدين تسرد سيرة عائلة من خلال سلمى ابنة رشيد التي تزور بيت أهلها لتبدأ عملية مراجعة لتاريخ العائلة، من العم جابر الذي بنى مع والدها مصنعاً للطوب الأحمر، قبل أن تقرر الحكومة إغلاق مثل هذه المصانع، فأبدله بمصنع للطوب الطفلي، والعم سميح المشكوك في نسبه إلى أبيه بحسب ما توحي الرواية، وهو الأقل ثروة بين أشقائه، والعمة نظلة التي تزوجت ولم تفقد بكارتها فعادت إلى بيت أهلها لتمضي بقية حياتها في بيت شقيقها رشيد عاشق الشرب والنساء والإسراف واللهو، والخالة لولا التي حبلت من شخص مجهول وانتحرت بالزرنيخ، وصولاً إلى حكمت طليقة العم جابر الذي تزوج بدلاً منها بشرى زوجة خادمه صابر الذي قضى في معمل الطوب (إضافة إلى الجدة رحمة، والخالة أنوار، والخال مصطفى الذي تزوج من امرأة ثرية تدعى نهاد تخجل من حياة الريفيين، وظيا زوج البطلة سلمى وطليقها لاحقاً وهو بريطاني من أصل باكستاني). ثم هناك الجيل الثاني من العائلة أي هيام أخت سلمى التي تزوجت رجلاً يعمل في قطر ولبست العباءة، وخالد شقيق سلمى الذي راح يميل للتدين كرد فعل على سلوك والده، وأنوار الشقيقة التي تحضر في الرواية بلا أي صفة أو حياة، وهشام ابن العم جابر والذي نام مع جميلة صديقة سلمى منذ الطفولة وقرينتها إذا صحَّ الوصف، والتي تشكل مع سلمى بطلتي الرواية، سلمى التي تلعب دور حافظة الأحداث وراويتها ومؤولتها وحاملتها على معانيها المتعددة، وجميلة ابنة الخادمة بشرى (زوجة العم جابر لاحقاً) والخادم صابر الذي تمزق لحمه في مصنع الطوب. تلعب جميلة دور البطلة الظل. إنها ضمير سلمى وصوتها الباطني وهاجسها ومطاردتها ومحتلة الجزء العميق من لاوعيها.
تقصّي الأحلام
توظف سلمى في ‘وراء الفردوس’ الأحلام كمادة روائية أساسية. نحن أمام شخصيات تحلم وتعيش أحلامها ثم تحلم بما عاشته حقيقة. الحلم هنا مادة السرد وذخيرته. لهذا يتوسّع عالم الحلم في الرواية ليشمل الخرافات والأساطير الريفية من أرواح وجن، كما يشمل أغاني شعبية يرددها الصغار عادة، من غير إهمال علم النفس الذي يحضر من خلال جلسات العلاج التي خضعت لها سلمى لدى طبيبة مختصة. سنكتشف مع توالي السرد أننا أمام عالم يختلط فيه الواقع بالحلم. سيظلُّ هذا الاختلاط يتنامى ليبلغ أخيراً ذروته: هل فعلاً ما جرى كان يجري حقيقة أم أنه مجرّد تهويمات تحدث في رأس البطلة سلمى. إن استخدام الحلم والأساطير والحكايات وعلم النفس في الرواية شكلت أقنعة وأدوات أتاحت للروائية التأليف والإنشاء بدل الأرشفة والتوثيق. أتاحت لها إجراء هذه المسافة عن الواقع.
قد تكون ‘وراء الفردوس’ من الأعمال الروائية القليلة التي تنتجها امرأة من غير أن تخضع لهذا الشرط. ليس في الرواية تلك الأنا النسوية التي تشكل عادة بؤرة السرد ووسيلته وغايته. ليس هناك أيديولوجيا نسوية تتصدّر العمل الأدبي وتعميه أحياناً. لا يعني هذا أن المرأة ليست حاضرة كقيمة اجتماعية أو إنسانية. بالعكس. لكن حضوراً كهذا لا يختلف كثيراً عن حضور الرجل. مثلاً، انتحار الخالة لولا لا يختلف كثيراً عن موت الخادم صابر، وتديّن الشقيقة هيام لا يختلف عن تديّن الشقيق خالد، وتخلي هشام لا يختلف عن تخلي جميلة. هكذا فإن الحياة تقسّم حوادثها على الذكور والإناث بالتساوي، بعيداً عن موقع الرجل وموقع المرأة في مجتمع شرقي وريفي أيضاً.
كذلك تلفت لغة صاحبة ‘ضوء مهتز’ و’متاهة مريم’ في هذه الرواية. إنها لغة سردية في المقام الأول، بعيدة عن البلاغات الشعرية والجمــاليات الإنشائية.
لغة بسيطة، سهلة، مباشرة، يأخذ فيها الحكي (من حكاية) مساحة واسعة، مثلما يشكل الحوار فيها ميزة المتكلمـــين وطبقاتهم وصفاتهم وثقافتهم. إنها لغة منضبطة عاطفياً: دراما بلا تراجيديا، وألم بلا تفجّع.