حمود ولد سليمان (غيم الصحراء)
أرخبيل العزلة الفردوسي
أكجرت
أيها التراب الحبيب..
ها أنا أقف علي مشارف الوادي. خالي الوفاض إلا منك، ليس لي إلا الذكري والماء، والريح يهمس ويرقص لي، فأحتضنه وأحلق معه في خفة طائر “العيس”. وأهبط علي التراب الندي، وحولي الماء يجري ويحفر أخاديد.. تتجمع فيها بقايا السيل أكواما من الأعواد يكسوها زبد أصفر.
أري أعشاش الطير وأسمع ضجيج الأخضر الطري.زقزقة العصافير تدوزن إيقاع روحي الجافلة من ضجيج الأرض.أشم رائحة الغيم وأجد ريحه .ظلال العصر تشيع ماتبقي من آثار علي الوادي وتمتد نحوي وأمد يدي اقطف نبتة برية لطالما قطفتها في سني الأولي . أتنفس الصعداء
وأحس رئتي قد امتلأتا بهواء نقي.أشعر أني أولد من جديد .أنهض من رمادي من كل سنين القحط والجدب. أقف علي قمتي. أسرح في مروج ذاكرتي علي ربوة غناء.. علي مرمي قريب من القلب تتراءي الواحة خضراء تعربد في الريح والجو نشوانا.. ظلال النخيل تصافحني من بعيد وتهتف لي. تتري الذكري في قلبي. في قفو المسارب أقف. أذكر الريح العاصف وأنا أرتجف .تبرق كل الأشياء في خاطري وتحتشد روحي وتكتظ وتغرق في بحر لجي….
أري العشيات المسافرة في الغبار. أسمع اهازيج الليل في ليالي القرية المقمرة .وأطفالا في الصحراء يضحكون ابتهاجا بالمطر. يلعبون .ويصرخون .مولعين بركوب الحمير واصطياد القبرات في المساء وارتياد الجنون .أراهم يسبحون في الإضي يخالونها نهر الفرات .وينحتون ألعابا من الطين .أراهم واراني طفلا اسمرا هزيلا مرهقا من كل شيء يعدو في الشمس الحارقة ..
أري النخيل…
أري الماء …
اري الصحراء ..
من بعيدأري الشجرة الكبري. شاهدة الزمان والمكان الأول “آفرارة ” تطاول السماء باغصانها العالية . وتعود بي الذكري لزمن الطفولة التي سرق اليكسوميون فردوسها أرقب شجرة التاريخ من بعيد توغل في المدي وتتأسطر في سفر الغابرين .عصية علي النسيان .
استمتع بزقزقة العصافير علي أعاليها في الصيف ويأخذني الفضول لما في تلافيف جذعها الكبير المفتوح الذي يشبه مغارة في كهف .
وفي الخريف عندما تخضر وتتناثر ويخرج نوارها عناقيدا تتدلي أرمي خروبها ليتساقط.ويأخذني الحنين لزمن النوار
. لم يعد النوار أخضر ا وشجرة الخروب الوارفة لم تعد خضراء .صارت عجوزا صفراء يابسة ذابلة .شاهدة الزمان والمكان حارسة الظلال التي كانت تحرس الأحياء من وهج الصحراء والأموات من النسيان لم تعد شامخة انكفأت علي الأموات وشواهد القبور المتناثرة تحتها معلنة أعظم فصول المحو في دورة الابدية السرمدية …
أذكر جيدا اني لأول مرة عند شجرة التاريخ “آفرارة” .في الظهيرة ارتعبت من الموتي وانا أحدق مذهولا برأس أمراة ميتة كان شعرها اسودا وضفائرها مجدولة .صرخت أعدو ومعي أترابي ومن ذالك النهار وفي خاطري سؤال يدور
من الذي أخرج ذالك الرأس في الظهيرة ؟ أهي كلاب القرية أم وحوشا مفترسة ؟
هاهي السناجب تركض في ذاكرتي وتعدو إلي الحدائق .والغربان تعقد اجتماعها علي “شجرة التاريخ ” في وهج القيلولة .طيور الظهيرة تحتمي بالسراب وتحلق في الأعالي أسرابا في فتنة الماء تسعي صوب النبع .
المساءات المغبرة .تأوي إلي .العواصف القوية تملأ الأفق غبارا أحمرا والريح ترتمي في غيهب السهل .أسمع صوتي وأري صورتي
طفلا اسمرا هزيلا مرهقا من كل شيء . من أبيه وأمه وأصدقائه وذاكرة الحريق من ضاربة الرمل وكهنة الصحراء والوثنيين والمتواطئين ضد الله ….
2/
أرخبيل العزلة الفردوسي
ها أنا أعود إليك مرة أخري
أترقب عودة الغيم الذي حكت لي أ مي عنه أنه سياتي ليغسل الأرض من درنها .في عام مبارك ستكثر فيه اسراب الطيور المهاجرة
.بعد عقود من نبوءة العابر الذي مر بقريتنا .ما زلت انتظر البشارة وأحاول أن اقرأ ما في سفر الغيب كما كنت في الماضي عندما كنت اهبط الي الواحة في الخريف ومنيتي أن اري الغيم يعانق النخيل . أيام كنت اركض في كل مكان واطل من عل لأستمتع بالافق الجميل و اقرأ آية النبوءة في الغمام عندما توشك السماء أن تمطر .فيخيل لي أني أري النور وأسمع السماء تناديني
ارخبيل العزلة الفردوسي
ماذا وراءك ؟ ماذا أمامك في كتب الغيم ؟!..
غير الخرافات والأساطير التي امتلأت بها جماجم الموتي
خمسون عاما وانت تجتر الحكايا وابنك البري يسأل : “ما خطبك يا سامري “؟ ومن أضل الصحراء ؟
غير راسبوتين . ولم تسأله ؟!!!!
أرخبيل العزلة الفردوسي
ها انت
وها هو الطفل العجوز .قد اكتهلت به العزلة وعلي رأسه يلعب غلمان العبيد
وأمام عينيه يستكمل راسبوتين أدواره الشيطانية
أرخبيل العزلة الفردوسي
أيها التراب الحبيب الجافل
لم أظلمت في عينيك الدنيا ؟
وحولك حقول الذهب والفضة ؟
لم تركت قراصنة الليل وأوغاد العصور الوسطي ينهبونك ؟
ويعيثون فيك فسادا ؟
لم يعد النخل ظليلا ولارفيقا ولاحبيبا ولاخليلا تغير كل شيء .تنكر أهل النخل للأرض فأنكرتهم الأرض.تغيرت الوجوه والقلوب .ومات أهل النخل ولم يعد العابر وتعذرت الأوبة
ونضبت الحكايات واشتعل الراس شيبا !!والاغاني والاساطير فقدت بريقها.
ها انت يا ارخبيل العزلة الفردوسي
وها هو ابنك البري يمد يده نحو السماء التي كانت قريبة منه أيا م كان يركض في العشيات المسافرة في الغبار
لم تعد السماء قريبة …
تهاوت النبوءة
والواحة لم تعد فردوسا والصحراء لم تعد وطنا للرؤي السماوية كما كان يقول إبراهيم الكوني
أرخبيل العزلة الفردوسي
الواحة لم تعد وطنا .