أربع دجاجات

علي الدكروري
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

علي الدكروي

ربما يمكنك أن تقرأَ كلَّ الكتبِ بعنايةٍ، لكنك ستمرُّ على كتابك بسرعة.. طوال الوقت أنت منشغلٌ بمن حولك، ولا تخلو بنفسك إلا للنوم.. وحين تنامُ سوف تحلمُ أيضاً من أجلهم.. لا تعرفُ كيف يتحمَّل تأمُّلك كل هذا التأمل، ولا ما الذي فعله حمادة الرجلُ الطيبُ لتقف حائراً الآن، وأنت يصافحك الناسُ بحرارة وحزن وينصرفون.. يقولون إن الطيبين مصابون دائماً.. لكن هذا الرجلَ خرج نهائياً من الطيبة والإصابة.

حمادة الموظفُ الكادحُ تزوَّج بنتاً أميَّة لأن والدها غنيٌّ، وستساعده في ظروف الحيرة التي صارت حياة.. وهي بفطرتها طيبة، لكنها تغار عليه من زميلاته في العمل.. خاصة حين ذهبت له أكثر من مرةٍ لتأخذَ منه نقوداً لشراء حاجيات البيت، وفي كل مرة كانت تجده يجلسُ مع نفس الزميلة.

طار صوابها ونهشت الغيرةُ قلبها وأعصابها، لأن السيدةَ أيضاً تفحَّصتها من أعلى لأسفل ببرود.. هكذا كانت تحكي لجارتها وتبكي.

صدَّقت نفسها ولم تنم، وظلَّت تدعو على تلك السيدة حتى سقطت السيدةُ طريحةَ الفراش، ولم تهتز الحاجةُ للأمر، بل فرحت وقالت: هذا حدث لها لأنها أذنبت في حقي.

وإمعاناً منها في التشفي كانت تزورها كل ليلة لتتأكد أنها قد دمَّرها المرضُ تماماً، فترتاحُ وتنام.

من يومها صارتْ كلما غضبتْ على أحدٍ يصيبه الأذى.. وتفرحُ وتقولُ لجارتها: من يغضبني فسوف يرى ماذا سيحدثُ له.

لم يسلمْ أحدٌ من الأذى، حتى المقرَّبين منها.. وكانت أختها الصغرى تخافُ منها، فحين تقولُ لها: أريدك الآن مثلاً، تتركُ أختُها البيت والأولاد وتجري إليها خوفاً من غضبها.

الحاجة نور سيدةٌ طيبةٌ، وتُخرج الصدقات، ولا تردُّ أحداً، وتصلي دائماً وتصومُ غالباً، لذا هي تعلم أن من يغضبها تنزلُ على رأسه المصائب، لأنها طيبة والله يحبها، ومن يحبُّه الله يغضبُ لغضبه.

عيبها الوحيدُ الظاهر أنها ليس لها سرٌّ، وتفشي أسرار الناس، لذا الكلُّ يخافُ أن يحكي لها شيئاً، لكنهم يقولون إن هذا يحدثُ بحسن نيةٍ منها، ولا تقصد شيئاً.

وهي تقسمُ كلما عاتبتها إحداهنَّ أنها لم تقصدْ شيئاً سيئاً، وأنها تخاف الله.

بيتها لا يخلو من الصديقات والمُحبَّات اللواتي لم يعلمن بأمرها بعد، لأنهن من أماكن أخرى، وهي كريمةٌ تقدِّمُ لهن كل ما عندها من طعامٍ وفاكهة، بل وتحدِّثهن في الدين وتعظهن كل يوم.

تشاجرتْ مع زوجة ابنها، فسقطتْ في اليوم التالي مريضةً.. ودار بها زوجها على الأطباء بلا جدوى.. وحين تعبَ من الأطباء ذهب بها إلى أحد العرَّافين، فأخبره أن زوجته أصابها جنيٌّ ساحرٌ، وهذا الجني يسكنُ أمه منذ زمن، وكل من يقتربُ منها فإنه يدافع عنها ويؤذيه.

قال له: أمي طيبةٌ ولا تكفُّ عن عمل الخير، فأشاح العرَّافُ بوجهه عنه.

عادت الزوجةُ المسكينةُ للبيت، وأحضرت قفصاً كبيراً ووضعتْ فيه أربعَ دجاجات، وذهبت لحماتها، وانكبَّتْ على قدم حماتها تقبِّلها وتبكي.. فأمسكتها من ذراعها وقالت: سأحاول أن أسامحك.

تركت زوجةُ ابنها شقتها وجلست معها تحاولُ ترضيتها، وفي صباح يومٍ ما أخبرت ابنها أنها سامحتْ زوجته.. بعدها بقليل شُفيت الزوجةُ كأن شيئاً لم يحدث.

المقرَّبون جداً منها يعرفونَ حكايتها، ولكنهم اعتادوا ذلك وأصبحَ الأمرُ طبيعياً بالنسبة لهم.. فهم يظنون أنها صاحبة كرامة.

عاد ابنها للعرَّاف وحكى له ما حدث، وقال: هل يمكنُ أن تعالج أمي فقد صرنا نخافُ منها؟ فقال له: لا علاج لها، فقد تمكَّن منها الجني.

فقال ابنها: يمكن أن يكونَ جنياً طيباً فقط. فردَّ عليه: وهل الطيبون يؤذون أحداً؟

كلهم ينشغلون بالود ويصافحونه بفرحٍ ويقدِّمون له ما يملكون حين يمرُّ بهم، ولكن أحداً لم يفكر أن ينظرَ خلف الود بقليل.. هناك أشياءٌ كثيرةٌ لا نراها ونحن مهمومون، والأسماء خدعتنا كثيراً.

كلهم يؤمنونَ بالعناوين، لذا اهتم الأدعياء بالغلاف كثيراً، واهتمت الحاجة بالثياب البيضاء.

الحاجة نور حين تغضبُ تصير كبيت يحترقُ، ولا تتكلم مع أحد، ولا تناقشُ أحداً، ولا تردُّ على الهاتف.

كانت تحب زوجها حباً شديداً، وتحفظ كل ما يحبُّه وتحققُ له ما يريده، وكان يقول لنا: لا توجد امرأة في العالم مثل زوجتي. لكنه منذ فترةٍ أصبح لا يهتم بها، ومنشغلاً عنها طوال الوقت.. وحاولت هي أن تتقرب منه كثيراً لتفهمَ ماذا حدث، فلم تجد إجابةً شافية.

ارتفع صوتها عليه لأول مرة منذ ثلاثين عاماً، وقالت له: هل تحبُّ غيري؟ فأجابها وهو غاضب: نعم. اشتعلتْ حتى احترق البيتُ كله، وربما الشارع كله.

في الصباح ارتدى ملابسه كالعادة ليذهبَ للعمل.. قالت له: أنا لم أحب غيرك في حياتي، لكن هذا اختيارك وتتحمل نتيجته.

نظر لها بلا اهتمامٍ وتوجه للباب ليخرج.. فتح البابَ وسقطَ فجأة على الأرض بلا حراك.

مقالات من نفس القسم