هذه الأميرة التي يناشدها صلاح عبد الصبور ألا تتنازل عن شرفها وكبريائها وعزتها أمام أي فرد، أمام أي شخص من طين، هي نفسها الأميرة التي تضع “أحمر خفيف” في رواية وحيد الطويلة الجديدة التي تحمل هذا الاسم عن دار “الدار” للنشر. وهي ليست موجودة وجودا ماديا في الرواية، ولكنها تدخل في علاقة تفاعلية ليس فيها كبرياء مع الرجل المخلوق من الطين، العملاق والشهم، والوغد والأفاق، وأنماط أخرى من شخصيات استطاع وحيد الطويلة أن يجمعها معا في خيوط متوازية، تتوالد فيها الشخصيات من بعضها البعض، تنطلق كلها من “محروس” وتعود إليه، لتضفر بحكاياتها خيوط الرواية كلها.
“أحمر خفيف” تؤكد أن المصري روائي مبدع بطبعه، ليس فقط منذ حكايات “الفلاح الفصيح” الراقية، ولكن لأنه حمل لواء القص الحديث وتقدم به خطوات عملاقة واكب بها العالم، وربما كان هذا هو الفرع الوحيد من الحضارة التي استطعنا فيها أن نجاري العالم ونسبقه في بعض الأحيان، بمنتج مصري مائة في المائة، وليس مهجنا في معامل العالم المتقدم. يشهد على كلامي هذا بالطبع تفوق العم نجيب محفوظ في الرواية واحتلاله مكانة عالمية لا نقاش فيها، ويشهد على كلامي تفوق الدكتور يوسف إدريس في فن القصة القصيرة، تفوقا شهد به العالم حتى وإن لم يفز بنوبل، ويشهد عليها القصاصون المصريون الكبار والصغار، وجميعهم بلغ شأوا في الرواية يحقق مستويات للجودة تسعى المؤسسات الحضارية الأخرى بلا طائل للوصول إليه.
وكما ذكرتني رواية “أحمر خفيف” برائعة صلاح عبد الصبور فهي تذكرني أيضا بفنيات القصة القصيرة كما قدمها يوسف إدريس، فهي رواية اللحظة الكاشفة، تتعدد فيها مستويات السرد على نموذج المونتاج المتوازي المعروف في السينما، ويختلط فيها الزمن الواقعي مع الزمن الروائي الفني، حتى لا تعرف بالضبط متى تجري الأحداث، الآن، في إحدى غرف مستشفي رمزي الطابع، يشرف عليها طبيب يريد التخلص من المريض حتى يريح الجميع، والمريض هو ذلك الشخص القوي المسيطر والمهيمن والذي يحكم ويبايع ويمد العهد، والذي يرفض أن يموت؟ أم أن الأحداث ترويها الشخصيات على مدى زمني بطول الرواية وعرضها، زمن حدده الراوي بدقة قبل بدء الرواية وتركه مفتوحا على مستقبل لا نهائي؟ وكما كانت الشخصيات تتوالد سردا من الشخصية الرئيسية فإن الزمن يتوالد هو الآخر ماضيا ومستقبلا من لحظة القص، التي لا يزال يصر وحيد الطويلة على أنها لحظة عارضة على المقهى، وهو بذلك يؤكد على أنها إحدى اللحظات الحية لها علاقة بالحياة أكثر من علاقتها بكهنوت الكتابة المتكلس. يتم استدعاء اللحظة نفسها في كل حدث، وكأنها، مثل القصة القصيرة، رواية اللحظة الواحدة شديدة التكثيف، تبدأ بها الرواية وتنتهي، ولكن البداية ليست كالنهاية، فهي تبدأ بالموت على باب المستشفى والملائكة أيضا، وتنتهي بالنعش على باب المستشفى والملائكة تفرقت، وكأنها رضخت لإرادة الحياة لدى شخصيات الرواية كلها، وليس فقط محروس، الذي تحرسه أنصاف ابنته، كما تحرس الأم وليدها.
التوازي الهندسي في بنية الرواية تقابله الدائرية في تطور أحداثها، فإنني قد أستطيع أن أوجز لك أحداثها إذا استعرضت لك شخصياتها، ولكن قراءتها على ترتيبها هو السبيل الوحيد لكي تستمع بنسيجها الخاص، الذي يبدأ بك في نقطة على محيط الدائرة وينتهي عند نفس النقطة، وهي بالطبع نقطة وهمية، لأن الحقيقة أنك لا تنزل في نفس النهر مرتين، والنقطة الأولى التي عبرتها ليس كالنقطة التي وصلت إليها رغم تشابههما الظاهري. ونظرا لهذه الدائرية فإن تستطيع أن تبدأ القراءة من أية نقطة لكي تصل في نهاية القراءة عند نفس النقطة، ولكن الأفضل بالطبع أن تبدأ من نقطة الانطلاق وتنتهي عند نقطة النهاية، مثل العجلة الدائرية في مدينة الملاهي، من المستحسن أن تركبها عندما تتوقف وتفتح لك أبواب كابينتها لكي تصعد، ولا تتركها إلا عندما تتوقف عن الحركة وتسمح لك بالنزول الآمن.
شخصيات الرواية يتقدمها جميعا محروس، كبير البلد حبيبها وحاميها، في لحظة فارقة بين الموت والحياة بعد أن تعرض لطلق ناري من قاتل مأجور، فتتأزم الأوضاع في البلد فالزرع نشف والبهائم على وشك الهلاك ومصالح الخلق تعطلت، والناس تتمنى له الشفاء أو الرحمة والراحة. والمستشفى التي يرقد فيها محروس يشرف عليها طبيب متوتر دائما، لا تفارق السيجارة فمه، وكل أزمته هي وجود المريض الذي لابد من التخلص منه، ولكنه الخوف من هذا الكبير الذي يمنعه من قتله بحقنة هواء. ومع محروس وتحت قدمه أنصاف ابنته ترعاه وهي شخصية رئيسة فاعلة في الرواية رغم أنها تبدو شخصية مساعدة تحفز على الفعل ويفرضها وجوب وجود حوار في غرفة المريض المحتضر، ولكنها دورها في دفع ثقافة الخوف، ثقافة الموت المهيمنة على المجتمع الحالي يؤكد محورية دورها.
وحول محروس شخصيات عديدة أبرزها العناني، الذي يتنظر فارغ الصبر موت الزعيم، رغم أن لا يملك مؤهلات خلافته، والفناجيلي، الهارب من الموت والباحث عنه في كل مكان، الذي يحمل كفنه وينتظر ويبحث، مثل أبو الليل، صاحب الليل، الذي يعيش الليل ويملك مقاديره ويترك النهار لباقي الرجال الذين يتسمون بالسلبية ولا يفعلون شيئا، أما هو، المريض بالجذام الذي تقنعه أمه أنه سوف يشفى لو أدرك النجمة المعكوسة التي تندفع وراء الشياطين تحرقها بلمح البصر، ثم تشفط رمادها، النجمة التي ستشفط جذامه إن لمست بضيائها ضوءه، حكت جلده أو مست بدنه، هذا المخلوق الذي يبدو تعيسا يبدو أكثر شخصيات الرواية إيجابية وسعادة. أبو الليل يبحث عن النجمة المعكوسة مثل عزت الذي يبحث عن المتعة والشهوة، والذي إن لم يجدها لدى بنى البشر تلمسها عند الحيوان، وشريكه المفضل هو الحمار، وهي ليست الرواية الأولى التي تقوم فيها علاقة جنسية كاملة بين إنسان وحيوان، فقد سبقتها ألف ليلة وليلة في ذلك، حتى وإن كان في إطار “مسخ المخلوقات” وليس في الواقع الملموس كما هو الحال في هذه الرواية. وعزت مثل طبيب المستشفى، سموه الدكتور، وهو مثل طبيب المستشفى رفيق الموت، الذي يتبعه ويحمل له الحقيبة ويجهز له الحالات بعد أن تحول إلى العلاج بالخبرة والدجل والفهلوة، وكلاهما يزعم القدرة على العلاج، بالعلم أو بالدجل، وكلاهما لا يعطي الناس ما يساعدهم فعليا على تجاوز هذه اللحظة التي تخيم عليها ثقافة ثقيلة الوطأة تطالبنا بالتجهز للموت قبل أن تطالبنا بمواجهة الحياة والتصدي لمشكلاتها، وتجعلنا، مثل وحيد الطويلة، نتفرغ لمحاربة الموت وألاعيبه.
في الرواية شخصيات أخرى مثل فرج، الذي يحمل على ظهره إرث العبودية ويحاول السيطرة على الناس بتراث الدين، ولكنه بالطبع لا ينجح في إتمام صورة طه بعد أن يخدعه أبو الليل ويقدم له الحشيش والأفيون قبل أن يبدأ القراءة، وإذا كان أبو الليل مريض مزدوج، بداء الجذام وداء السرقة، إلا أنه أكثر اتساقا مع نفسه، يعرف أزمته ويعرف أزمات الآخرين، وقادر على التعايش مع أزمته بالسخرية ليس من نفسه، ومن مرضه، ولكن من أصحاب الأزمات الآخرين الذين لا يعون بها، وهو هنا يؤكد على الوعي قيمة كبرى من قيم الحياة. فرج شخصية مشوهة من الداخل، وأبو الليل مشوه من الخارج فقط، وبالطبع التشويه من الداخل أخطر وأكثر ضررا.
شبكة الشخصيات التي تدور حول محروس، من أبناء وزوجات وأخوة وأقارب وأبناء البلدة، يبدون كالجوقة التي تساند الراوي في السرد، الذي يتم من خلال منظور الغائب، وهو هنا الراوي العليم، الذي يرى كل شيء، ويتنبأ بكل شيء، ويتوحد مع المؤلف في نهاية الرواية وعلى ظهر الغلاف حيث يذكر وحيد الطويلة نقلا عن نفسه باعتباره إحدى شخصيات الرواية: النعش ليس على باب المستشفى والملائكة تفرقوا، وهو بذلك يتقمص شخصية الكاتب الذي يعطي الأمل في ا لحياة وفي إمكان الإفلات من الهلاك المتربص بالمكان، يعطي الأمل وطاقة النور في نهاية درب مظلم، مثل رواد الواقعية الاشتراكية، ولو كنت مكانه لما جعلت النعش يبتعد عن باب المستشفى ما دام لا يزال هناك في درب المصاعب طريق طويل ينبغي قطعه، أو على الأقل تركت النعش وفرقت الملائكة!!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ناقد مصري