أحمر خفيف.. رواية وحيد الطويلة تصيّد الحنين

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 82
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عناية جابر

بكفّ واحدة، كان ستلتانو معبوداً لدى جان جينيه في سيرته الذاتية الفاتنة "مذكرات لص"، كما محروس في "أحمر خفيف" للكاتب وحيد الطويلة ، بكف واحدة فحسب يبطش بالأحياء المتحلقين حول احتضاره، وبالشخصيات التي تستدعيها ذاكرته في استفاقات مذعورة، بين غفوة وأخرى.

لوحيد الطويلة، رواية سابقة: "ألعاب الهوى" ومجموعتان قصصيتان "خلف النهاية بقليل" و"كما يليق برجل قصير".

في جديده “أحمر خفيف” نشم رائحة الموت تنبعث من محروس محتضرا على سرير في مستشفى، تظل عالقة في أنوفنا حتى في استدعاء أحداث وشخصيات: عزت العايق، الفناجيلي، أبو الليل، انصاف، الشيخ العناني، فرج، أبو العشم، عزيزة العمشة.. شخصيات الريف المصري، في صراعاتهم وغرامياتهم وعهودهم على الفوز بالوادي الضيق، متن السرد ومنه تتفرع متون الحكاية والكتابة، لتنتهي حيث “النعش ليس على باب المستشفى، والملائكة تفرقت“.

في “أحمر خفيف” تتبع لأثر الحنين الى الرحم المصري عند وحيد الطويلة، رحالة المدن في تونس والدار البيضاء وأخيرا قطر، وعودة الى المكان الذي بدأ فيه، والى الكتابة عنه كاختراع لما يُشفي من صدوع وتقرحات حنينية، كتابة ترتبط بناس الطويلة لن نعرفهم كقراء أبدا، ناس بلدة وزمان ممتلئين بالأحداث ، من حيّز غيابهم تدخل الرواية، تقاطع الموت والصمت، تنطقهم وتحييهم وتجعل لهم سجلا، وحقا في الإجلال.

من الجائز أن مهارة وحيد الطويلة في “استخدام” الكلمات، هي النوع الماكر، القريب من التدريب على كتابة الشعر. الحساسية التي تُمتّن السطور القاسية والحنونة، هي الوعي على تقديم حياة شخصيات الطويلة، بالطريقة التي قدمت فيها، وهي الدعامة الضرورية وغير العقلانية، لهذه الشخصيات الشبيهة بالكلمات المعبرة عنها، والتي تؤانس القارئ وتجعل السرد سهلا على قلبه.

الزمن في الحكاية يتخذ بعدا بطيئا، حيث تبدو الأحداث متفقة مع مساحتها، مع ذلك مشروخة بفسحات إغفاءات الموت، التي تقلق ذاكرة “الفتوة” محروس.

الصلات الزمنية هامة في رواية وحيد، بين أحداث موغلة في القدم وقريبة، عن طريق ذاكرة ترفض احتضارها، وحضور يتحدى الموت ويشجع الكلمات على معان جديدة، وعلى مراجعات لمعان قديمة، تأمل في أمور أكلها الوقت، وأخرى لن يتسع لها.

أن يقضي وحيد الطويلة، الكاتب المصري سنوات شبابه خارج بلده مصر، بأقل ما يمكن من التماس الجسدي معها، يعطي فسحة كبيرة للاستكشاف. العيش في مقاهي تونس والدار البيضاء وقطر هو التمرين في الضلال عن مصر، عن بلدته وعن مقاهيه.

الضلال هنا، كما يبدو لي أثناء قراءتي “أحمر خفيف” هو أحسن نوع من التدريب للكاتب. انه هنا يعود، في صحبة ابتهاج غريب الى المكان الأول. الضلال هو الشعور بالتوحد، والقادر الوحيد على تعيين المكان “الأصلي” من جديد، بعين ثاقبة وقلب مفتوح.

يكتب الطويلة في احتضار محروس: “ينتفض الآن ليقطع خيوط المحاليل، يلوح بذراع يتيمة بدون كف، يلالي، ينادي على اخوته، يزعق بالصوت الحياني… يا بو العشم، يا بو صفيحة، يا بو هوانة، يا بو الليل.. يا واد يا بو الليل يا وله. صوته يعود من الهواء، والهواء ثقيل، يراهم، ظلالهم على الحائط الباهت، يناوشون بأيديهم، ويشيحون، ليمنعوا القطار من عبور الغرفة، ليمنعوا محروس أن يستفيق.

… “ولاد الأرض بينادوا على ولاد السما… يابا راحوا وراحت أيامهم“.

للوصول إلى هدف السرد عند وحيد الطويلة، ثمة حاجة الى الصخب والضجيج، وحاجة اقل الى “التذويق” وما بينهما يُترك مبهماً ويعرفه فقط من يحنّ بولع الى شيء افتقده.

الزمان والمكان في “أحمر خفيف” هما زمانان ومكانان ريفيان حاضران حتى اللحظة ولا يستدعيان التأويل.

الأفكار والمشاعر معبّر عنها بكلمات قليلة كافية، وأحيانا صامتة، وأحيانا خطبا متقطعة وكلها مشوقة دون هوادة، ومتوجهة الى هدف واحد، ينشد “الفتى” الذي كانه الكاتب والذي عاينها عن كثب، وباعدت ما بينه وبينها، أزمنة وأمكنة اخرى .

أحمر خفيف” رواية تصيّد الحنين في أكثر أماكنه سرية.

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم