إنه ذلك العالم الذي يرى على الدوام بعينين مخمورتين لا تصدقان في وجود ما هو أبعد من يقينهما المرئي هذا والمحسوس به خدرا آنذاك وهو في ذاته العالم الذي ننتمي إليه كلما قذفنا بقنابل الإبادة الجماعية التي تفني الأجساد في مساحات شاسعة من الأرض وتشوه الأرواح في مساحات أخرى في جنون أبله ووقح يستمر في فقأ فقاقيعه كريهة الرائحة في جوفنا لنقتل من داخلنا ونتحول إلى مجرد دمى لا تحرك الإحساس بالشفقة حتى فيمن يمر عليها ويدهسها في لا وقاحة دمى تدهس دمى أخرى كانت قد دهست غيرها أيضا، وهكذا حتى نتآكل في مشهد عبثي لن تتبقى منه سوى أشجار سوداء مكللة بالخيبات ونعيق البوم وغربان لن تجد حتى من تعلمه كيف يواري سوأة أخيه.
إن يماني ينظر إلى الأشياء من حوله بكامل هيئتها وبتفاصيلها الدقيقة بشكل يبدو معه أنه قد نجح في استعارة عيني بيكون رسام الفجيعة وفي نص عنوانه “في صحبة فرانسيس بيكون” يقول الشاعر:
فَمُكِ الذي حمل شفاها استثنائية
حمل ماء وطعاما وكلمات ضاعت في الهواء
وأخرى بقيت في خشب السرير
حمل صمتا مرّا ساعة الدمع
وصمتا ناعما في القيلولة
حمل ضحكات طويلة ومتقطعة
ابتسامات صفراء وخضراء
حمل المضمضة، المعجون وفرشة الأسنان
حمل جسدي قطعة قطعة.
فمك هذا كان يتساقط داخليا
يتقوض من تلقاء نفسه.
إن يماني يطمح في هذا النص أن يجاري بكلماته فرشاة بيكون، فيتحقق له ذلك حينما تتشظى تلك الكلمات وتتوه الأفعال الافتراضية وتتلون الصور ويستبد الصمت وتتداعى البناءات حد الانهيار والتساقط.
ويماني يرى في واقعه المعيش ما قد يخدع البعض بانتماءه إلى عبثية التشكيل التعبيري مثلا أو ربما إلى جموح المخيلة وجنونها الفني على الرغم من انتماء ذلك الواقع المرئي إلى واقعيته المتأصلة التي تقترب في إدهاشاتها الحادثة إلى الواقعية السحرية لدى كتاب أمريكا اللاتينية من أمثال بورخيس، ماركيز، خوان رولفو وغيرهم من الكتاب الذين برعوا في سرد جوانب عدة من الحياة في إطار سحري آسر، وهو ما يستعيره يماني في قصائده التي تأتي على على نحو أو آخر ممنهجة وفقا لقواعد تتناص مع قواعد الواقعيين السحريين، ونجده في قصيدة “المرمى الخالي” يسرد في إطار شعري مدهش لمشهد واقعي بسيط تتخلله إيماءات طبيعية لا تنفصا عن الواقع الذي تنتمي إليه ومع هذا فإنه لا يمكن التنبه لها في أغلب الأحوال إلا من خلال الفعل الفني الذي تمثله هنا قصيدة الشاعر الذي يتعاطى الواقع وفقا لشعوره الداخلي وحاجاته الإنسانية المتدفقة رغما عن مرارات العيش وانكفاءات الواقع المضجر.
إن يماني الذي يشاهد التحولات اللامرئية في طمأنينة الأشياء وولوجها إلى ملاهي الشر والعبث يستدعي من التشكيلي صمته ويستعير كذلك أصوات أولئك الشخوص الممسوخين تحت سطوة الألوان وصرامة الخطوط فنراه دوما ما يلوذ بالصمت كأحد الرغبات الحقيقية القادرة على حمله للغنصات ومشاهدة ما يحدث بداية من داخله وحتى الحدود اللانهائية لما هو خارجي.
الصمت أروع شيء داخل الحديقة
هناك أصوات لكنها صامتة
ما إن تدخل حتى تصمت من نفسها
وقصائد “أحمد يماني” هي حقا وردات يانعة في الرأس الحالم حيث تعيش وتنمو في سلام وفقا للاقوانين واقعها المخيلاتي وبعيدا عن خسائر الحياة الواقعية ومكائدها المقيتة حيث “الرصاصات تتطاير في كل مكان” ومع هذا “فالأرض ليست سيئة تماما لكنها عطشانة يا صديقي ونحن الكائنات التي تدب فوقها من آلاف الأعوام علينا أن ننعشها… أن نقدم لها دماءنا وعظامنا مخلفات جنسنا الرائعة”…
ــــــــــــــــــــــــــــــ
جريدة الزمان 15/04/ 2009