أحمد يماني وياسر عبد اللطيف من جيل رأى الكثير دفعة واحدة

أحمد يماني وياسر عبد اللطيف من جيل رأى الكثير دفعة واحدة
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

كاظم جهاد

لا عن كسل بل من أجل التكريم، تخالطنا الرغبة في الكتابة عن باكورتي الشاعرين المصريين الشابين، أحمد يماني وياسر عبد اللطيف، جنبا إلى جنب، والجمع بينهما في كلمة واحدة. لا شك أن لكل من الشاعرين خصوصيته وعالمه، على أنهما عالمان يصبان في مجال الشركة والائتلاف آتيين إليهما من باب الفردانية والاختلاف.

 ينتمي يماني وعبد اللطيف إلى عالم قاهري لست الوحيد الذي يجده أثيرا وعذبا. حول الرسام المصري عادل السيوي وأفراد غاليري “المشربية” الذي يشرف هو عليه، وفي صحبة الاسكندرانيين علاء خالد وأسامة الدناصوري والقاهريين محمد بدوي وعلية عبد السلام وأحمد يماني وياسر عبد اللطيف وشعراء مجلتي “الكتابة الأخرى” و”الحرافيش”. عبر هذا كله عرفت سبيلي إلى كتابة مصرية مغايرة لا تناصب الأجيال السابقة لها العداء كما يحصل في أقطار أخرى، لكنها تتقدم بصورة أليفة وواثقة. أصوات لا تترد أمام السجال لكنها تجد في السخرية أو الدعابة النقدية واحدة من أهم عُددها. إلى هذا فيماني وعبد اللطيف هما رأس مثبث يحتل شاعر آخر، هو محمد متولي، زاويته الثالثة. ولقد فاز متولي قبل عامين بجائزة دار رياض الريس للشعر، وكانت الرغبة تحدو الكثيرين في أن ينالها بالتناصف مع أحمد يماني، بعدما تناصف الاثنان جائزة رامبو عام 1991.

في “شوارع الأبيض والأسود” ليماني، و”ناس وأحجار” لعبد اللطيف، تقف أمام دواخل شعرية تبدو وكأنها في غاية النضج النفسي، مع أننا أمام شاعرين لم يتعد الواحد منهما سنيه العشرين إلا قليلا. ولا يعني النضج هنا ترهلا، ولا عجزا عن الاندهاش (صفة الشعر الأولى)، بل هو اكتناز بالتجربة يوقفك بخطورة على المصير المرير لجيل يبدو وكأنه رأى الكثير دفعة واحدة، جيل تتمشى لديه الطفولة والكهولة يدا بيد. ثمة هنا انقشاع لأوهام العالم، وفردية جامحة، وتكسير للأواصر المتواضع عليها بشدة. لا تتبدى عوالم الآخرين في هذا الشعر غلا بما تتيحه من فرصة للمفاجأة، فكأنك موجود بقدر ما أنت مفاجئ أو جديد. تذهب الألفة بالعكس إلى الأشياء، أشياء الشاعر الحميمة، يؤنسنها ويمدها بحضور وعافية، كما في “هواء توقف أمام البيت” إذ يكتب يماني: “القلم بارد في يدي/ لكن كثرة ضغطي عليه ستدفئه”. ثمة لدى يماني نرجسية شعرية، على أنها ساخرة، تفارق نرجسية البعض المنتفخة وتتخطاها إلى التحديق بالشرط الأنوي باعتباره مناسبة تواضع واكتئاب:

“أبدو حزينا

حواسي متفتحة جدا

ومستعدة لالتقاط ما يدرو حولها.

أحب غرفتي حيث الكتب المرصوصة

تناسب 23 سنة من الدوران حول الذات

نموت فيها بدرجات محسوبة”.

ثمة أيضا ارتداد على الحياة اليومية، وتفجير لأسئلة ليست من العبثية الطائشة في شيء:

“لكنك تعتقد أنك حين تنظر في المرآة/ ستجد شبحا هائلا بعينين جميلتين، اترك هذا الشبح جانبا وفكر ما الذي يعنيه أن تأكل كل يوم”.

والعلاقات المألوفة، بالأب مثلا، تدع المجال لتشوف دافئ وحنون لجسور للتواصل مختلفة:

“تبادلت سيجارة واحدة مع أبي

أخبرني أنه فعل ذلك أيضا مع أبيه

واستنتجت أن خيطا من الحنان

يسري في عروقي

في الشارع اكتشفت الهواء الذي يحيطني

وأنني مهما أرسلت ذراعيّ عاليا

فالهواء يغلفهما

طولي يجعل البشر قريبين من عيني

اجتهدت أن تكون قامتي قادرة على

كشف عروق الحنان التي تنفر

في وجوه العابرين”.

وكما يحدث لدى المتصوفة، فالنظرة تتجه شطر الموتى، تعكس عبرهم وضع الأحياء. من هذا المنطلق ربما وجدت مجموعة يماني الصغيرة هذه ذروتها في مطولته “يوتوبيا المقابر”، قصيدة بالغة الدفء، تتخللها ومضات سخرية متكتمة، بل قد أجازف بنعتها بالحكيمة:

“الصرخات التي أطلقناها قرب الفجر

لم يسمعها أحد

أصوات الكلاب في الخارج تشعرنا بمودة.

نزحف لتتلامس عظامنا

ونحب بعضنا أكثر

يحكي كل منا عن طفولته السوداء

ونتبادل الضحك

ولا نملك ساعة حائط

لنعرف متى تقوم الساعة”.

ثمة هنا ما يشبه وداعا للحياة، الحياة في عرفها السائر، لا من أجل قبول الموت (والحيوية أمارة سيدة في هذا الشعر)، بل تفجيرا للشفافية:

“لماذا تتركونا على أطراف المدن؟

يجب أن نكون معا

عندما تسقط الأمطار،

وأن نغني تحتها،

ويمكننا أن نتحدث عن عربات

سارت بنا في طرق طويلة وعادت بدوننا”.

مجموعة ياسر عبد اللطيف  “ناس وأحجار” تنقسم من ناحيتها إلى ثلاثة كتب صغيرة، يبدو في الكتاب الأول “لا أحد يفهم الموسيقى” وكأنه يتلكأ في أذيال الحكاية، حكاية آتية من ممارساته القصصية، كما عندما يكتب:

“في حينا الصغير، لم يكن هناك سوى طبيب واحد

يعالج جميع أنواع المرضى.

وكثيرا ما كان يتجاوز دوره كطبيب

ليقوم بدور المصلح الاجتماعي (…)

وما زلت أحتفظ له بصورة طريفة (…)

كنت فيها أجذب لحيته الصغيرة  وهو يقوم بتمريضي

في طقس من طقوسه غير المجدية”.

إلا أنه يبلغ المفارقة الشعرية مع الكتاب الثاني “قصائد من العطلة”. كما عندما يكتب في: “وحدة الوجود”: “قطعة بيتزا دخلت رأسي بين النوم واليقظة، / وقصاصة جريدة وسماعة هاتف/ هكذا تسللت الغرفة”.

أو عندما يسطر سيرته اليومية على نحو:

“كطفل مدلل تشتري لي أمي كل صباح

علبة سجائر،

فأذهب إلى العمل بقلب رجل (…)

بينما روحي الطفلة منسية في حقيبة المدرسة”.

حتى إذا أدرك الكتاب الثالث “ناس وأحجار” كان في صميم الشعر، يحدق بالواقع المحيط برءية صاحية وينسج على أنقاضه صورا فاتنة، ملتقطا هو الآخر مفارقاته الأليمة. كتب في “أركيولوجي”، التي ربما كانت في مقاطعها المتلاحقة مأثرة هذه المجموعة:

“الراقصون بجوار البحر،

والأجساد الأنثوية المغسولة بالبيرة والليمون؛

وحدي مستقبلا البحر، أوليتهم ظهري،

أدخن،

موسيقاهم لا تتناسب والأفق.

حتى في النزهات الخلوية يكون الموت حاضرا لنتأمله

جميعا وكل منا بطريقته”.

قصيدة يتوجها هذا المقطع الذي ينطلق فيه الشاعر من “هرب فعال” تلحقه عودة كاسرة:

“سأخرج إلى الصحراء كهارب/ وتحت شمس تذيب الجماجم/

ستنصهر حياتي الماضية/ فأرى مستقبلي كسراب/ أو كفتاتين تردان الماء لأبيهما/

من بئر سورها من طين/ سأحرسهما من خلف/

وأرقب انعكاس الشمس الغاربة على حرير ثيابهما/ أبوهما الشيخ

سيحادثني في الميتافيزيقا/ فيزوجني الصغيرة صاحبة القدمين الصغيرتين/

عشر سنوات أرعى له قطعانه/ أذوق خلالها حبا رعويا/ عشر سنوات اعود بعدها إلى المدينة/ حاملا اتساع الصحراء بصدري/

وجديرا باختراق القانون الذي فررت منه”.

ــــــــــــــــــــــــــــــ

الحياة 12 أبريل 1995

الصورة: ياسر عبد اللطيف وسيد محمود ويماني.. صحبة التسعينيات تتجمع في معرض أبوظبي للكتاب 2013

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم