قالت لى مرة : أنتم جيل يخشى كل شئ ،ونحن جيل لا يخشى أى شئ ،وكانت هدى حسين علامة قوية بالنسبة لى للتعرف على ملامح هذا الجيل ،وعندما بدأت أتعرف على الشاعر أحمد يمانى ،لاحظت أنه شخص حذر ،لا يقترب من الناس إلا بحساب ،أو هكذا بدا لى ،ولا أعرف لماذا كنت أشعر دوما أنه خارج توا من غرفة ما ،هل هى غرفة موسيقى؟، هل هو كان يتدرب على شئ ما ، كنت أشعر أنه يرسل كلامه كأنه يخاطب كيانات غير مرئية ،فهو لا يريد أن يقول مايقوله لمحدثه الفيوزيقى الذى يجلس أمامه ،بل يريد أن يبلغه رسائل متدافعة ،وبها قدر من المبالغة ، وبدأيستقر فى وجدانى أن هذه الجماعة ماهى إلا جماعة خرجت على التاريخ الكلاسيكى التقليدى الذى كان يجثم على “نفس” الشعر والحياة والفن عموما ،هنا بدأت أسجل فى يقينى مهارات الشعراء الجدد،هذه المهارات التى راحت تدهش الجميع ،وتقلقهم فى الوقت ذاته ،كنت أتصور دوما أن أحمد يمانى يعيد سيرة الشاعر والناقد محمد بدوى بشكل ما ،ربما داخلنى هذا الشعور لوجوه الشبه الخارجية بينهما ،طول الجسد ورشاقته ،الجلسة على المقهى غير مكترثين لما يحدث ،غير حريصين على متابعة مجريات الأمور ،وكل منهما يصنع موسيقاه الخاصة به ،حتى لو كانت نشازة أو خارج اللحن المعد سلفا ،ربما النزق الذى كان يخترق شعريهما ،فمحمد بدوى له اختراقات سبعينية شعرية لم يكمل تمامها ،ولكن يمانى كان يطلق شعره ،كأنه رجل يريد أن ينبه المارة لقصصه وحياته التى لا تشبه حياة أحد ،فهو دوما يكتب كأنه يخبر عن نفسه بدقة :
“فى الظلال الداكنة للغرفة
مع أباجورة قديمة
أقف أمام المرآة
أتأمل رأسى وخصوصا أسنانى
جسدى يملأ المرآة كلها
وأنت ورائى تبحثين عن فرجة لتطالى رأسك” من ديوان :تحت شجرة العائلة
أو يقول :
“أغلقنا الباب خلفنا
تأكدنا تماما من فقدنا للمفاتيح
على النافذة وضعنا قطعة خشب كبيرة
أطفأنا جميع الأنوار
وتمددنا تحت الملاءة
صرت عود ثقاب مستعمل
وصارت
حفنة تراب لا تجد أية رياح تذروها” من ديوان :وردات فى الرأس
ولا بد أن أقول ملاحظة هنا بدت لى من التطور الذى لحق بشعر يمانى ،وربما بحياته نفسها ،ففى البداية عندما كان يكتب فى مطلع التسعينيات قصائده ،كانت هخذه القصائد مشغولة دوما بتقديم الشاعر نفسه عبر مايشبه الاعترافات ،أو سرد القصص القصيرة حول علاقات الشاعر بالحياة وبالناس وبالمرأة وبالجنس ،ودوما كانت هناك أشكال النزق الخارجة عن حسابات القارئ ،وهذا ماكان مصدرا لمتعة هذا القاؤئ الذى يتتبع اعترافات هذا الشاعر “الجرادى”، الخرج توا من غرف التدريب أو الموسيقى لا فرق ،وهو مشغول بسرد وقائع ماحدث له مع الجميع :
“أنا شاب من أواخر القرن العشرين
أعمل فى خدمة الحكومة
وأظن أننى أعمل فى خدمة روحى
بعد أيام أكمل الثامنة والعشرين
وبعد أيام أطول أكون فى الثلاثين
رجلا ناضجا تماما
ومن الآن أعامل نفسى
وكأننى بلغتها بالفعل
فأبتسم بحساب” من ديوان :تحت شجرة العائلة 1998.
هكذا كان يمانى يقدم ذاته ،ويتحدث عنها ،ربما كان يحاول اكتشافها ،وكان يرصج تفاصيل هذه الذات الالمتمردة ،حتى على نفسها ،ولكن هذه الذات فى تطورها بدأت تدرك أن هناك آخر ،ويمكن تقديم تفاصيلها من خلال هذا الآخر ، هذا الآخر المتعدد ،والذى يتجاوز أحيانا أسوار الوطن ،فالعالم كله لهذه الذت هو الوطن ،والشاعر لا تحده حوائط ولا أسرار ،فهو مفتوح ككتاب كبير على الدنيا كلها ، لذلك سنلاحظ أن أحمد يمانى فى كتاباته البعدية ،راح يكتب لبشير السباعى وعادل السيوى ومجدى الجابرى وفرانسيس بيكون ،وحرص على استهلال كتاب “وردات فى الرأس”الذى صدر فى عام 2001 بفقرة كاشفة يقول فيها:
“العاصفة
ستحمل ذرة من رفاتى
خرجت مسرعة عند فتح الباب
لتستقر فى أصيص نبات الظل
النائم سعيدا
بجانب سريرك”
ثم نكتشف أن كل القصائد فى هذا الديوان ،والمهداة إلى آخرين ،ماهى إلا الاكتشاف الأمهر والأبدع للذات من خلال هؤلاء الآخرين ، ومن خلال علاقة الشاعر بكل هؤلاء الذين طوفوا بحياة الشاعر ،وربما أثروا فى هذه الحياة ،بل ربما غيروها لبعض الوقت ، هذه الحياة التى هى نتاج لعلاقات ومحكات كثيرة قابلها الشاعر على مدى تاريخه الطويل.
أحمد يمانى شاعر يستعصى على التصنيف الفنى ،والجيلى ،والقومى ،هو شاعر يسبح كثيرا فى ملكوت العالم ،يخطف حكاية من هنا ،ومعنى ما من هناك ،ليؤلف لحنا خاصا به ،ويضع قسماته المتميزة به ،حتى لو كانت هذه القسمات والملامح حادة ،لكنها تخصه وتشمله وتحيط به من كل جانب ، يشترك مع أبناء جيله فى النزق والتمرد والخروج والصياح والهدوء المفاجئ ،لكنه قادر على إقناعك دومكا أنه رجل خاص جدا ،ولن تستطيع إدراكه إلا بالاقتراب الذى يايق به ،إنه شاعر يتجاوز العزلة بمفرداته الجرحة له ،قبل الآخر ،نجواه وبوحه وقدرته على الدخول فى عوالم تشغله هو ، تجذب انتباه قارئه ،فيظل القارئ مشدودا إلى الشاعر الذى صنع لنفسه سلما من الفن ، وراح ليصعد عليه ،والقارئ المتابع يحملق فى حركة هذا الشاعر الذى لا يكف عن الصعود فى المعنى ،والارتقاء لأعلى. تحية لأحمد يمانى الذى لم يغادر ،رغم أن جسده هنااااااااااااااااااااااك، لكنك دوما تشعر بأنك ستقابله فى أى مكان فى وسط البلد فى الوقت الذى لا يحدده هو ،ولا تحدده أنت ،ولكن قصيدته هى التى تضعك أمامه مباشرة ،حتى لوكانت قصيدة عن الآخر المتعدد.