أحمد الشهاوي: أغلب من يكتبون الرواية هدفهم التسلية !

أحمد الشهاوي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

حاوره: حسن عبد الموجود

يملك الكاتب المصري أحمد الشهاوي المولود في عام 1960 تجربة طويلة مع الشعر، فقد أصدر عدداً كبيراً من الدواوين حازت مقروئية كبيرة واهتماماً نقدياً، منها «ركعتان للعشق، الأحاديث (السفر الأول)، الأحاديث (السفر الثاني)، كتاب الموت، قل هي، لسان النار، باب واحد ومنازل، أسوق الغمام، سماء باسمي، لا أراني، ما أنا فيه، وأنا خطأ النحاة»..

كما أصدر عدة أعمال عن العشق منها «كتاب العشق، أحوال العاشق، الوصايا في عشق النساء، الوصايا في عشق النساء، أنا من أهوى.. 600 طريق إلى العشق، وكن عاشقًا»، بالإضافة إلى كتابين في فلسفة الدين، هما «نواب الله وعدماء الدين»..

لكنَّ الشهاوي لأول مرة يقرر خوض مغامرة الرواية، إذ أصدر روايته الأولى «حجاب الساحر» التي وصلت مؤخراً إلى القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد. حول الرواية وأيضاً تجربته مع الشعر كان لنا مع أحمد الشهاوي هذا الحوار.

* نبدأ من «حجاب الساحر». هي رواية معرفة إن جاز التعبير، فيها الكثير من المعلومات عن العشق، والفلسفة وعلم النفس وعلوم الإنسان والجغرافيا والتاريخ والرحلة والديانات القديمة والحضارة المصرية.. كيف حضَّرت لها؟

– عندما يكونُ في يدي عملٌ ما، فأنا أتوحَّدُ معه ولا أتركُه حتى ينتهي، بعد أن يكون قد أخذ وقته في التفاعُل والإنضاج داخلي، إلا رواية «حجاب الساحر» التي تركتُها بعدما أتممتُ أكثرَ من نصفها، فكل شيء كان جاهزًا وحاضرًا في رُوحي، لكنَّني خشيتُ الإخفاق، فأنا أحبُّ أن أكون مكتملا في أي عمل، على الرغم من أن الكمال ليس من سمة البشر، ولكن على الأقل عليَّ أن أسعى وأحاول، ولذا لم تكن السنوات الأربع من 2017 وحتى 2022 مكرَّسة فقط للرواية، حيث نشرتُ خلالها أربعة أعمال في الشِّعر، وأدب العشق، وأدب التصوف، ثم عدتُ إلى روايتي التي أطلقتُ عليها «حجاب السَّاحر» منذ اليوم الأول في كتابتها، خُصوصًا أن الجزء الأول منها كان عبارة عن حجاب حقيقي قمت به ليحفظ سيدةً ما من طُغيان الأعمال السحرية التي قام بها رجلٌ ضدها.

لا شك أنَّني سافرتُ وأجريت مقابلات عديدة، وقرأتُ الكثير قبل إنجاز هذه الرواية، لكن أستطيع القول إنني بشكل عام لا أكتبُ عن شيء لم أختبره أو أمارسه أو أعرفه حق المعرفة، فأغلب ما جاء في النصِّ كنتُ أكتبه كأنني أحفظه غيبًا، أو كأن أحدًا يملِي عليَّ، ولا شك أنَّ هناك أسرارًا في طبخة هذا العمل قمتُ بها بحُكم معارفي وعلاقاتي وتجاربي والصديقات والأصدقاء الذين كانوا يمدونني بكل ما طلبته واحتجتُ إليه، وأنا مدينٌ لهم بالطبع.

وأنا بطبيعتي كتبتُ رواية من النوع الذي أحبه في الجنس الروائي، وهو النص الذي يُمْتِع ويثقِّف الرُّوح في الآن نفسه، ويُغيِّر النفسَ، ويملأ القلب بثمار المعرفة من دون إغفال مُتعة القص أو بهجة السَّرد، إذْ ما أكثر الحكَّائين في زماننا، وما أقل – بل ما أندر – الكُتَّاب. فأكثر الروايات التي أقرؤها منذ كنتُ صغيرًا هي من النوع الذي يصقلني ولا يُضيِّع وقتي، فمثلي لا يبحثُ عن كيفية إزجاء فراغه، فلا وقت فراغ عندي، ولذا قراءاتي في الرواية صعبة وانتقائية ونخبوية، وأنفر من سيلان الوصف، وحُمَّى الإسهاب والترادف المجاني، وهناك طرائق كثيرة لكتابة الأشياء والعوالم من دون الوقوع في الاستسهال والمجانية وثرثرة اللغة العادية.

*بعد الألم الذي يلمُّ بشمس حمدى بطلة الرواية، نذهب بصحبتها وصحبة عمر الحديدي لتداوي ألمها النفسي والجسدي، من ساحر إلى ساحر ومن جزيرة إلى جزيرة بحثاً عن شجرة دم الأخوين وعنبر الحوت، في بنية تشبه بنية ألف ليلة وليلة. ما رأيك؟

– قريتي كفر المياسرة هي قريةٌ تقع على شمال السماء، ملأى بالسِّحر وفيها مقام سيدي علي السقا على بُعد أمتارٍ من بيتنا حيث النيل بطقوسه وعوالمه وحكاياته ومرويات ناسه وقصص جنياته، وأنا شخصيًّا جزءٌ من هذا النهر، وجُزءٌ من هذا المقام، وهي المرة الأولى لي التي أكتبُ فيها شطرًا صغيرًا من قريتي الزاخمة والزاخرة بالغرائبي والعجيب والنادر في سحريته، مثلما كانت رحلتي إلى جزيرة سُقَطْرى في اليمن، والأقصر في صعيد مصر، وولعي منذ صباي بالهرم الأكبر وأسراره، وعلى هذا هناك «ألف ليلة وليلة» في كل مكانٍ ذهبتُ إليه، فأنا ابنٌ شرعيٌّ لفن توليد الحكايات أو القصص، وهذا جُزءٌ من شخصيتي عندما أحكي شفاهة وليس في الكتابة فقط.

ولعلَّ اهتمامي المُبكِّر والدائم بالتراث العربي والتصوُّف جعلني مشغُولًا بخصوصية نص عربي يشبه كاتبه، ولا يستند إلى مرجعياتٍ أخرى، إذْ كيف يستندُ الآخر الغربي إلى إرثي وأنا أتركه جانبًا، وأروح مباشرةً إلى الغربي لأتعلَّم منه أو أقتبسَ طريقته، أو يكُون هو نموذجي ومُرشدي ومثالي في السَّرد أو الشِّعْر.

أنا قدمتُ عالمي وأسطورتي، وأي قارئ لروايتي «حجاب السَّاحر» من خارج الثقافة العربية سيلحظ المزج بين ما هو حقيقي وتخييلي، وسيدرك غِنى عوالمنا وهويتنا في نصٍّ ينتمي إلى الرواية المعرفية كنوعٍ في سياق الجنس الأدبي وليست جنسًا مُنفصلًا كما يروِّجُ البعض.

ومن سيرى الرواية سيجد أنني استخدمتُ طرائقَ كثيرة للكتابة فلم أنس الرسالة، والرحلة، والتاريخ، والجغرافيا، والشِّعر والحوار، وعلم النفس، والخُرافة والحقيقة، والفلسفة والأسطورة، لقد منحتُ نفسي طويلًا لهذه الرواية، وراجعتُها كثيرًا، وحذفتُ منها ما رأيتُه سيثقلُ النصَّ.

أتصوَّرُ أنَّ «حجاب الساحر» تنفتح على ثقافاتٍ متراكمة ومُتنوِّعة، كما تتعدَّد المعارفُ فيها مع تعدُّد الأزمنة، حيثُ التشابُك والتضافُر والتداخُل هو السيِّد داخل النص. وهنا أكونُ في مرتبة الكشف، حيثُ تهبُني العوالم نفسها من دون تكلفٍ أو تعمُّد.

كان السؤال هو الهاجسَ الأساسيَّ لديَّ وليس التسلية التي هي هاجسُ وهدفُ أغلب من يكتبون الرواية. ولا يعني هذا أنني أغيِّب عنصريْ التشويق والمُتعة، ولكنني أيضاَ حاولتُ خلق متعة روحية وقلبية لمن يقرأ العمل.

أنا كشفت كونًا يظنُّ الناسُ أنه معروفٌ، لكنه ما زال وسيظل مجهولًا، وقد مزجتُ وراوحتُ بين ما هو واقعي ومعرفي من جهةٍ، وبين ما هو سحري ومتخيل من جهةٍ ثانيةٍ.

* ما الذي أغرى شاعراً مثلك بأن يتجه إلى الرواية وقد تجاوز الستين من عمره؟

– ذهابي إلى الرواية قد يكونُ تأخَّر عشرين سنةً أو يزيد، وما هذا الذهاب إلا دخولُ غرفةٍ أخرى من بيتي مُتعدِّد الغُرف، ولا يعني تخليًّا مؤقتًا أو دائمًا عن الشِّعر، لأنَّني أعيش شاعرًا منذ ولدت.

وروايتي «حجاب السَّاحر»، كما قلت فيها: ليست بعيدةً عن كوني الذي أتحرَّك فيه، ففيها الكثير من خبراتي وتجاربي ومعارفي ومُحاولاتي التي أخفقتُ فيها أو نجحتُ، ولم أشأ أن أقدِّم حكاية تقليدية، لأسلِّي قارئًا أو أزْجِي فراغَ مُتلقٍ ضربه مللُ الحياة، ويمكن أن يلحظ من يقرأ الرواية أنني كائنٌ منفلتٌ من أسر تقاليد الكتابة الراسخة والمتداولة،، إذ إنني أومنُ أن هناك ألفَ طريقةٍ وطريقة لكتابة الرواية أو النص الشعري أو أي جنس أدبي آخر، وأنَّ هناك طرقًا سيخلقها آخرون سيأتون بعدنا، كما أنهم قادرون على ابتكار أجناس وأساليب جديدة لم يصل إليها أحدٌ قبلهم.

ومنذ بداية الرواية أيضاً أعلنت أنَّني «لن أذهب إلى نظرية ما لأكتبها أو أحكي قصتها، فالشكل الكتابي أمرٌ فضفاضٌ وواسع، وأنا أحبُّ ألا أكون مملًا، أو أجعل من يقرؤني يلتفت بعيداً عني من فرط الملل والاستطراد والاستغراق في الدقائق والهوامش الصغيرة المغرية لأي كاتب أو قارئ، فالتفاصيل كثيرة والأسرار أكثر. لم أذهب إلى الكتابة إلا لإدخال البهجة على نفسي أولًا، وليمتلئ قلبي مسرَّةً وفرحًا، فمثلي يبتهج بالتأمُّل والنظر عميقًا نحو ما لا يراهُ الآخرون، ساعيًا نحو تسجيل أو خلق عالم مواز لحياة شمس حمدي، التي هي من أحسن النساء».

وأنا مدين في هذه الراوية إلى تراثي العربي، خصوصًا الأدب الجغرافي، والتصوف، وأدب الرحلة، إذ إنني ألح دائمًا على ذهاب الكاتب العربي إلى إرثه الغني والمتنوع، فبدلًا من أن يذهب إلى جارثيا ماركيز عليه أن يقرأ أولًا «كرامات الأولياء» لإسماعيل النبهاني، وبدلًا من أن يجلس على باب خورخي لويس بورخيس لماذا لا يقرأ كتاب «متون الأهرام» أو «الخروج إلى النهار» وهما كتابان أساسيان في الحضارة المصرية القديمة، والأمثلة أكثر من أن تُذكر أو تُحصى، وهذا أفضل من الاندحار والانبطاح أمام كل ما هو وافد من الغرب.

وأنا مع ميلان كونديرا عندما قال في كتابه «فن الرواية» إن « الشعر والفلسفة لا يقدران على استيعاب الرواية، تقدر الرواية على استيعاب الشعر والفلسفة، من دون أن تفقد شيئًا من هويتها التي تمتاز بها على وجه الدقة».

*قلت إنك حذفت الكثير من الرواية فما الذي حذفته؟

– اعتدتُ في كلِّ ما أكتب على مُراجعة ومُساءلة ما أكتبه، بمعنى أن أبتعد عن النصِّ فترة ثم أعودُ إليه غريبًا كأنني لستُ صاحبه أو كاتبه، وأتعاملُ معه بقسوة المتلقِّي أو الناقد الحاد، أو الجرَّاح الذي يستأصلُ أيَّ زيادات في جسد النص، كما أنني من الذين يعرضون نصوصَهم على عيونٍ أخرى قريبة مني متنوِّعة الفكر والثقافة والاتجاه، وأبدأ في تلقِّي اقتراحاتهم وآرائهم، وقد آخذُ بعضَها أو أرفضُ بعضها، حتى تكتمل قناعتي بما كتبتُ، وعادة في كل طبعةٍ جديدة من كتبي أقوم بالتغيير وعادة ما يكونُ التغيير حذفًا وليس إضافةً، لأنني أعتبرُ الحذف إضافة مهمة إلى النصِّ.

*وصول الرواية إلى القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد ما الذي يعنيه لك وللرواية؟

– ربما الذين اندهشوا من أنَّ روايتي «حجاب السَّاحر» قد دخلت القائمة الطويلة لجائزة زايد للكتاب، فرع الآداب من بين 688 عملًا تقدَّم أصحابها إلى هذا الفرع، في أوَّل إصدار روائيٍّ لي، لا يعلمون أنني دخلتُ هذه القائمة من قبل ثلاث مرات عن أعمالي الشِّعرية: «سماءٌ باسمي، لا أراني، وما أنا فيه»، بمعنى أن هذه هي المرة الرابعة لي. والجائزة بشكلٍ عام مُحفِّز للكاتب، وتلفت انتباه مُجايليه، والنقاد، والقرَّاء إلى مُنجزه، خُصوصًا إذا كان لها مصداقية مثل «جائزة زايد للكتاب» التي أراها مهمَّة في التنبيه، والتعريف، والإشارة التي يستحقها المبدع، والوصول إلى القائمة الطويلة هو في حد ذاته جائزة.

*الطبعة الأولى نفدت في أقل من شهر كيف استقبلت ذلك؟

– وبعد إعلانها ضمن القائمة الطويلة للجائزة صدرت طبعة ثالثة منها أيضاً. ما يهمني حقيقة هو أن يُقْرَأ عملي الروائي، لأنني كتبته بتأنٍّ وحُبٍّ ولم أكن أسعى إلى شيء سوى تحقيق المُتعة لي ولمن يقرأ، وأن أقدِّم خبرةً ومعرفةً وعالمًا ربما لم يصادفه الناس من قبل.

فرحتُ كثيرًا باستقبال القرَّاء والنقَّاد والكتَّاب للرواية، وكان الفرح الأكبر هو تعدُّد القراءات والتأويل للنص ففي خلال شهرين نشر أكثر من ثلاثين دراسة نقدية ومقالًا حول العمل، وهو عدد لافت، كما أن الباحثة يمنى إسماعيل قد أدرجته في أطروحتها للدكتوراه حول الرواية الأولى للشعراء وقد اختارت أربعة شعراء هم محمد الأشعري من المغرب، وإبراهيم نصر الله من فلسطين والأردن، وغازي القصيبي من السعودية، وأحمد الشهاوي من مصر، وهناك مداولات حاليًا مع ناشر لترجمتها إلى لغات أجنبية.

* لماذا وزعت دواوينك كثيراً على الرغم من أن الشعر غالباً لا يبيع في البلدان العربية؟

– الشعرُ لا يبيعُ في كل العالم وليس البلدان العربية، بالطبع هناك استثناءاتٌ قليلة في دنيا الشعر، وأرى أنه لو أتيح الكتاب الشعري بسعرٍ زهيد أو معقُول، وصاحبته قراءاتٌ وكتابات نقدية وأمسيات لصاحبه لوزِّع كثيرًا، خصوصًا أن الإنسان فُطِر على الشِّعر، والشِّعر لا يموتُ إلا بموت الإنسان وانقراض سلالته.

وربما لأنَّ لديَّ ناشرًا واحدًا «الدار المصرية اللبنانية» منذ ما يزيد على ثلاثة عقود ينشر لي كل ما أكتب بواقع عمل أو اثنين في السنة، فقد يكون بسبب ريادته في التوزيع داخل وخارج مصر، وكذا لمشاركاتي الشعرية العربية الدائمة، وربما لأن القارئ حسن الظن بما أكتب من شعر.

*أنت كثير الأسفار.. ما الذي تضيفه إليك الأسفار على المستوى الروحي والكتابي؟

– لا أتصورُ نفسي كائنًا بلا سفر. ففي السَّفر سبعمائة فائدة وأكثر، وليس سبع فوائد فقط، كما هو شائع في ثقافتنا.

وأرى أن نجيب محفوظ لو كان قد سافر كغيره من كتَّاب العالم، لكان من أكثر كتَّاب العالم مقروئيةً، ولكان في مكانةٍ كتابيةٍ أخرى.

ففي السَّفر حياة أخرى، وولادة جديدة للإنسان، كما أنَّ مسامه وأحاسيسه ترى وتبصرُ وتشعر بالجديد.

فأنا أقرأ وأكتب في السفر بشكلٍ جيد، كما أن قراءة البشر والأماكن منجزٌ مهم لي روحيًّا ونفسيًا، وقد سافرتُ إلى بلدانٍ كثيرة تمتاز بالتنوُّع الذي أبتغيه وأسعى إلى الوصول نحو تحقيقه. ومن يقرأ نصِّي سيلحظ هذا التعدُّد والغِنى، وتراكم النظر إلى الأشياء.

السَفْر يعني لي الكشف والإضاءة والإنارة والإشراق، ويكفي أن نعرف أنَّ المتصوفة جميعًا هم مسافرون في المكان والوجدان، كما أنَّ الأنبياء والرسل كان لكل منهم رحلته من مكان إلى آخر، حتى ولو كان السفر في بطن حوت كما وقع ليونس عليه السلام.

وإذا كان الكاتبُ يسافر بخياله إلى عوالمه المجهولة التي يخلقها، فعليه أيضًا أن يسافر بالطائرة والقطار والسيارة ليعرفَ أكثرَ، ولمحيي الدين بن العربي رسالة مهمة عنوانها «الإسفار عن نتائج الأسفار»، وربما يكون ابن العربي من أكثر متصوفة العرب سفرًا وتجوالًا في المكان والروح معًا.

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم