أحلى من حلاوة الروح

الجن..الدراجة.. والمراجيح.مقطع من "ألف جناح للعالم"..رواية تصدر قريبا
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد الفخراني

عندما سألتها عن عمرها، قالت إنها لا تعرف بالتحديد لكنها بالتأكيد لم تتعد العشرين فصديقتها المتعلمة أخبرتها أنها ستدخل الجامعة قبل أن  تبلغ العشرين.

صديقتها الآن في أول عام لها بكلية الطب.

عندما تسألنى لماذا أريد أن أعرف عمرها أترك لها ثمن طبق الحلو وأمضى، أسمع مصمصة شفتيها تتبعها بكلمة (عجيبة)!!

أقف وحدى مختبًا فى واحدة من انحناءات الشارع أرقبها، تقف خلف عربة يد خشبية صغيرة مثبت فوقها برواز زجاجى بأحد زواياه لمبة تمطر ضوءًا أبيض، أمامها أطباق الحلو والأرز الساخن، حولها ثلاث بنات صغيرات لا يتوقفن عن اللعب والضحك، ينادينها (أمى)، يهدّهن التعب، يعدن إليها، تمسك بطبق كبير يمتلئ حلوًا، تقسمه بينهن بالملعقة ثلاثة أقسام متساوية، يأكلنه، ينهضن للعب، آخر الليلة تطفئ عربتها، تجمع بناتها تحت ذراعيها وتمضى.

أنا لم أتخيلها إلا أمًا أو زوجة مخلصة، تمنيت لو كانت زوجتى/ حبيبتى، أتعمد الجوع، الاشتياق لأرزها وحلوها والنظر إليها، تتحاشى نظراتى، تتصنع أشياءًا تنشغل بها عنى، كل ليلة أسألها سؤالاً واحداً وتجيبنى إجابة واحدة، عرفت اسمها، بيتها، و..

                                   – أمى..

تصرخ بها خائفة إحدى بناتها، تحتمى بها من أختيها، تنشغل بهن عنى.

أترك ثمن الحلو وأمضى.

كنت أريد أن أسألها عن زوجها وأخواتها، هل لها أخت مثلها؟

عدت إليها في مسائى الجائع، العربة مظلمة، ذهبت لبيتها، البيت نصف مفتوح، ناديت باسمها ودخلت، كانت تجلس بمنتصف حجرتها فوق الأرض مفتوحة الصدر، شعرها الطويل يغطى ظهرها، تحتضن إحدى بناتها بذراعيها، تضمها إليها حتى لم يظهر منها غير رأسها، البنت ترتجف، تدندن لها بأغنيات، تزيدها احتواءً، لم تتكلم، أغلقت عينيها تشارك البنت آلامها،أخبرتنى أن أمها كانت تفعل هكذا معها لو اشتد بها البرد، تُدخلها فيها وتخرجها دافئة، بكت، تقول إنها لا تخشى على البنات أكثر من الفقر والبرد، أن وصية أمها لها قبل موتها كانت أخواتها البنات.

فَرِحْت، هى لست أمهم، أقسَمَت بكتاب الله أنها لن تأخذ الدواء الذى سأشتريه للبنت، جلست بجوارها أتلمّس دفئها.. أحلم معها حتى الغد.

صباحاً كانت تقف خلف عربتها، قالت لى إنها لن تتزوج قبل أن تطمئن على البنات، ربما تزوجهن قبلها.. دفعت ثمن الحلو.

سنوات تمر أأكل من يديها، تتحاشانى، تنشغل عنى وأنا أرقب الخصلات البيضاء تغزو شعرها الأسود مبكراً ودخان الأرز يحرق جلدها الناعم.

الأيام تخطف منها حلوها وبناتها حولها يمارسن الحياة.

عندما سألتها عن عمرها قالت أنها لا تعرف بالتحديد، لكنها بالتأكيد وصلت الثلاثين فصديقتها المتعلمة أخبرتها أنها لن تتزوج قبل أن تصل الثلاثين وتصبح طبيبة مشهورة.

الليلة زفاف صديقتها.

دفعت ثمن الحلو.. انتظرت أن تسألنى: لماذا أريد أن أعرف عمرها.

تبتلع دموعها وتخفى بيدها خصلاتها البيضاء.

                                   – أمى..

نادت بها إحدى البنات، حضنتهن، وأمسكت بأحلى أطباقها الحلوة تقسمه بينهن ثلاثة أقسام متساوية ولا شىء لى أو لها.

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم