ياسمين مجدي
تتصدر أحلام نجيب محفوظ منطقة المثال عند حضور مجموعات الأحلام القصصية للمبدعين العرب، منذ انتصرت لصالح الغرائبية، والمفردات غير المنسجمة التي يتم اجتثاثها من عوالم مختلفة وتركيبها معًا. يأتي الكاتب حسين منصور بمجموعته من منطقة الأحلام نفسها، وهو كذلك يعيد إلى ذهن القارئ عمل عبده جبير “سبيل الشخص”، القصة ذات الأجواء الغرائبية، والتي تبدو كحلم طويل يتنقل بسرعة من حدث لآخر ويشهد تبدلات فورية. فبدت “يعبر الزمن على دراجة” ابنة لميراث قصصي له جذوره، وإن قلت أعمال الأحلام القصصية.
يعترف حسين منصور أن مجموعته مستلهمة من أحلامه الشخصية، ويكشف عما يسميه بمهارة “إدارة الحلم”، بمفهوم ترويض العقل الباطن ليحيك حلمًا قصصيًا مكتملًا، ثم يحتفظ به لكتابته عند اليقظة بإشارات سردية دالة.
توظف المجموعة الرمز بشكل جوهري، لأن الأحلام تكتسب معانيها من تأويل رموزها، لذلك فالمرأة على هيئة غراب تنقر البطل في رأسه، والطبيب شيطان، والقطار ينقلب كعلبة صفيح. تأتي الأحلام إما لتفسر للبطل حقيقة لم يدركها في الحياة الواقعية، أو تمنح منطقًا لأشخاص وأحداث لا قيمة لهم في اليقظة، أو هي هواجس وأمنيات مكبوتة يحققها البطل بعد أن عجز عنها في الواقع، مثل أحلام الحرية والحب، فيبدأ بحلم الحرية حيث الجميع يسير في مسار طيني، ولا يقدر البطل على الخروج منه، وحين حاول واستيقظ ليتحرر منه، طاردته عرائس الحلم في الواقع.
الانتقال
خيّمت على المجموعة أجواء غرائبية، فالأبواب تظهر وتختفي، والخطوات تقودنا إلى أماكن أخرى، والملابس تتبدل في لمح البصر، وهي كلها صياغة قصصية متطابقة مع المسارات غير المنطقية للحلم. ونلحظ الأهمية الخاصة لتكرار مفردة الأبواب، فهي وحدات الانتقال داخل الحلم من مكان إلى آخر، يعبرها البطل لينتقل زمانيًا ومكانيًا، باعتبار الحلم نفسه وسيلة للنزوح إلى حيث يتمنى.
كما حضر الانتقال بصورة أخرى عبر “الفتحات”، يحاول البطل العبور منها رغم ضيقها المتكرر. وتشير الفتحات إلى الصلة بين عالم الواقع (الأرض) وعالم الحلم (الموت)، فالأحلام هي المعادل للموت الأصغر في وعينا البشري، لذلك حاول البطل في أحد النصوص العودة إلى الأرض أو كما أسماها (تحت) عبر فتحة من الفتحات.
ودائمًا هناك (تحت) ميدان أو شارع وطريق للعودة، يحاول البطل الهبوط إليه، ما يؤكد دلالة الحلم كأفق أعلى وملاذ. فيظهر البطل الراوي في كثير من الحالات كشبح أو غير مرئي وترفض العائلة السماح له بدخول البيت ليلًا باعتباره من أشباح المساء، ما يؤكد انتماءه إلى عالم الحلم الآخر.
ووظف المؤلف مفردات، مثل “ضيق”، “قصير”، و”شحيح”، ليمنحنا تأثير الصعوبات التي تتصف بها الأحلام.
حضر القطار كثيرًا، فهو إحدى الوسائل المتكررة للانتقال داخل رحلة الحلم، أو ربما لأنه مفردة ذاتية في حياة المؤلف نفسه، الذي يستعمل القطار في حياته الشخصية كثيرًا.
العنوان
عنوان الحلم هو مفتاح العالم الغرائبي، وأجاد القاص وضع عناوين تهبط بتلك الأحلام من سماء الجنون إلى أرض الواقع لتفسيرها، فالشاب الذي اتهموه في الحلم بالجنون أو بالمس الصوفي، يقول عنه المؤلف في نهاية النص: ❞أرى ابن شوقية يطير حرًا؛ أو يلهو بنجمة بين كفيه ينظر إلينا من هناك ويضحك.❝ ما يكشف انقلاب الموازين في الحلم، فيدشن البطل المضاد وينصبه بطلًا، ذلك الرجل الذي لا يعترف به الناس إلا كمجنون، ويأتي عنوان القصة باسم “نجمة بين كفيه”، ليكشف فرادة وجمال هذا الشخص، فالنجمة إشارة للنور والحرية، وهي بين كفيه.
كذلك تتميز عناوين المجموعة، فالميت الذي ترك جسده وصعد، اسم قصته “أن تبقى دائمًا تحت”، وهي إشارة إلى الموت والصعود.
المكان
تشير مجموعة “يعبر الزمن على دراجة” للكاتب حسين منصور إلى المكان والزمان عبر عناصر، مثل البراد الصاج الأزرق القديم، والبيجاما الكستور، وستائر البرقع، والطقم الأسيوطي، لتحيلنا دون تصريح إلى مكان وزمان محددين، وتُلمّح بنستولوجيا بمفردات إلى الزمن الماضي. في مواضع أخرى يأتي ذكر المكان صراحة عبر رمسيس والسيدة زينب وشبين وغيرهم. ويمنحنا المؤلف خلفية ريفية عبر مفردات الخبيز، والعجن، والماجور.
تستخدم المجموعة لغة شديدة التكثيف، لذلك أتت النصوص قصيرة وعدد صفحات الكتاب قليلة، فالعمل مثل لوحة مرسومة بدقة، وبتكثيف تتحرك الأحلام بسرعة وغرائبية.
يبقى خيط يربط المنام بالواقع، فيكسره المؤلف، ويتيح للعالمين الانفتاح على بعضهما، منتقلًا بين الواقع والنوم في سلاسة، فيستيقظ من الحلم، ليذهب الى الحمام، ثم يعود للنوم واستكمال الحلم: ❞ فألقيت رأسي على المخدة أستجدي ذهاب الدوار، وألم شديد في رأسي، لكن كان الميدان فسيحًا، ومغلقًا وخاليًا، أقف فيه وحيدًا ❝. تتكرر لحظات كسر خط الحلم/ الواقع، فتخرج العرائس لتطارده بعد الاستيقاظ، أو يجد وجه ابنه مبللًا بعد أن رآه يبكي في الحلم. وتتدخل الإرادة في الاستيقاظ من الحلم كأن البطل يستعمل الحلم عن وعي كأداة علاج: ❞ولم يكن من حل غير أن أصحو -كما كل مرة بإرادتي- لأخرج من التيه.❝
الصداع والدوار هو علامة للخروج من الحلم، تكررت في الأسطر قبل الأخيرة من نهاية الحلم. وامتدت الشوارع في النصوص خاوية ولا نهاية لها، يسير فيها البطل والأحداث والأفكار تنبت فيها، ليبدو الشارع رحلة الحياة: ❞شارع وحيد ضيق وممتد، أسير فيه دائمًا دون وصول.❝
تفاجئنا عدد من النصوص بالتويست، ففي قصة “بيت مظلم في آخر الشارع”، سترى رجلًا يساعد طفلة لعبور شارع مظلم، ثم تكتشف في النهاية أنك داخل عقل أحد مجاذيب الشارع، يتصور وجود من يحادثه، ثم بنعومة نخرج من عقله، فنجده يسب ويخلع جلبابه الممزق.
إنها مجموعة تعبر الزمن على حلم ❞وكيف أروي ما لم أشاهده! يا أبي أنا أحكي ما أراه فقط❝، كذلك رأى حسين منصور، وكتب، فعبر الزمن. أفكر بعد قراءة المجموعة أن أحلامنا قصة حداثية مكتملة غرائبية، فهي رمز منسوج بدقة كل عنصر له دلالته، من صنع عقلنا الباطن والحكايات المكبوتة بداخله. يبقى أن الشاطر هو من يستيقظ لكتابة الحلم قبل أن يتبخر، وعلى القارئ أن يفك لغز المفردات، “وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين” (سورة يوسف).