أبناء الجبلاوي ..عن الفوضى التي أفرزها عقم الخيال

أبناء الجبلاوي ..عن الفوضى التي أفرزها عقم الخيال
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

هذه رواية ممتعة، آسرة، وعميقة، تكشف عن روائى كبير، يمتلك أدواته، ويعشق فنه، ويختزن طاقة هائلة من الخيال، والقدرة على السرد، ويفهم فن الحكى، باعتباره إعادة بناء للحياة، بل إنه حياة موازية، أكثر إبهاراً من الحياة.

أبناء الجبلاوى” لإبراهيم فرغلى”، والتى فازت عن جدارة بجائزة ساويرس، أكبر وأعمق بكثير من أن تكون مجرد تحية لنجيب محفوظ، ورواياته، وأبطاله، إنها تحية لما هو أشمل من ذلك: للخيال الإنسانى، ولفن الرواية والحكى، ولقدرة الإنسان على أن يحدد مصيره، وأن يختار، وأن يتخلص من قيوده، وأن يعيد خلق حياته، كيفما شاء، وأن يواجه نفسه على الورق، وأن يرى جوهره من خلال أقنعة الفن الملوّنة، وإذ تنمحى الفواصل بين الخيال والواقع، وإذ يقوم الواقع بتقليد الفن، وليس العكس، وإذ يُنبئ الخط والورق بما سيحدث، فإن الرواية الرائعة تقول لنا إن “العقل يختزن ذاكرة العالم، والتاريخ البعيد، ويفيض بالخيال الذى يجعله قادراً على التنبؤ بالمستقبل، قوة جبارة، لم يعرف العالم كيف يسيطر عليها أبداً“.

ينطلق السرد كيفما شاء، مازجاً ببراعة بين فصول رواية كتبها روائى اسمه “كاتب الكاشف”، لاحظ دلالة الاسم، وبين ما يكتبه شيطان “كاتب” عن المؤلف نفسه، يتعرّى أمامنا الكاتب والمكتوب.

يكتشف “كاتب الكاشف”، الذى يرفض نشر أعماله، أن خياله عن مجتمعه المتناقض، وعن شخصياته الغريبة، قد تجسّد واقعاً أمامه، “نجوى” بطلة روايته ليست سوى امرأة حقيقية بنفس الاسم، لها نفس التفاصيل، ونفس العلاقة الملتبسة مع صديقها “كبرياء”، بل إن ما تخيله كاتب الكاشف، من اختفاء كل روايات نجيب محفوظ، يتجسد حقيقة واقعة، يسقط الخيط الرفيع بين خيال كاتب وواقعه، وينهار الجدار بين المؤلف وشخوصه، وبين الكاتب ووحيه/ شيطانه، كأن “أبناء الجبلاوى”، ببنائها المركّب والفذّ، ليست ، من حيث الشكل، إلا رحلة داخل معمل الخيال، الذى صنع رواية تحققت، أوكأنها سيرة رواية، أو رواية عن رواية.

ما يدهشك فعلاً أن هذه المتاهة السردية لا تفقدك لحظة واحدة متعة القراءة، ولا شغف الإستمرار، ينجح إبراهيم فرغلى فى أن يهدم بناء الرواية التقليدى بمعول الحداثة، كما تعلم من شيخه نجيب محفوظ، ومع ذلك لا يضعنا أمام لعبة مجانية، لأن هذا التلاعب بالخيال والواقع معاً، ليس فى حقيقته سوى معنى الرحلة بأكملها، الخيال والواقع زاويتان لنفس الرؤية الثاقبة، وما الفن والخيال إلا مرايا مجازية للحقيقة التى نجهلها حتى عن أنفسنا، وعندما يبيع الوطن ( فى الواقع) النيل لصالح الصحراء، تختفى كتب محفوظ منذرة بوباء مدمر يترك الناس بين الموت والعمى، ولكن خيال كاتب واحد يستعيد شخصيات أديب نوبل، يلتقيها ويهرب معها بحثاً عن سر لن نعرف حلّه ابداً، يقول فرغلى ببلاغة مؤلمة من خلال هذه الأوديسة المكتوبة: كفى بالمجتمع تعاسة أن يفقد خياله، كفى به انهياراً أن يفهم الرواية باعتبارها مجرد حواديت وشخصيات، وليست واقعاً موازياً أكثر حقيقة من الحقيقة نفسها.

ببراعة مدهشة تندمج كتابات محفوظ وشخوصه (أحمد عبد الجواد والجبلاوى وكمال عبد الجواد وأمينة .. إلخ) مع شخوص الرواية (كاتب الكاشف وكبرياء ونجوى وجيسيكا ورفيق فهمى)، يتوالد السرد من السرد، والخيال من الخيال، والواقع من الخيال، يصبح فعل الحكى وسيلة للإكتشاف والتعرى التدريجى، بل يبدو أحياناً كعلاج لأشخاص لا تعرف عقدها، يتحول الفصل التعسفى بين ما هو واقع وما هو خيال الى مجرد افتراض نظرى عبثى وساذج ، وننتقل بسلاسة من تحية الى محفوظ، الى رؤية انتقادية لمجتمع يتراجع، ولأشخاص منقسمة على ذواتها، لننتهى الى قصيدة حب لفن الرواية، الذى لايزيد عن “مجموعة من الأكاذيب الصادقة“.

كيف اختفت روايات محفوظ؟ من أخفاها؟ إذا بحثت عن شخص أو أشخاص، فأنت لم تفهم الرواية، اختفت روايات محفوظ لتعلن عن اختفاء العقل، وعن غياب المعنى والبوصلة، وعن فوضى أفرزها العقم وغياب الخيال، عندما تعود هذه الأشياء ستعود الروايات، وساعتها فقط، قد تسمح الظروف ل”كاتب الكاشف” أن يطبع رواياته الخمس الراقدة فى الإدراج.

هذه رواية عظيمة عن روعة الفن فى مواجهة بؤس الواقع، شكراً لك أيها الروائى الكبير.

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم