نهى محمود
تمضي سيارة الأوبر في شارع طويل أعرفه جيدا يمتد من أول المدينة لآخرها، متعبة وفي طريقي للبيت وبجواري “شهاب” دب صغيرتي الذي اشترته من “آيكيا” والذي يشبه ذلك الذي في كرتون الدببة الثلاثة.
وقعت في غرامه فور رؤيته، فهو صغير وناعم وضعيف وأنا أتداعى تماما أمام الألعاب ذات الفرو الناعم تلك الصغيرة الضعيفة، أخبرتها أننا سنتشاركه ونلعب به سويا وهو أمر اعتادته طفلتي.
كان جواري في السيارة عندما بدأ الطريق يظلم تماما، لم اعد أرى السائق ولا السيارة ولا يدي، لا شيء.. صمت مقبض وسرعة شديدة كأننا دخلنا نفقا غير موجود، تحدثت مع السائق بخوف أحاول أن أداريه، كررت كلماتي وارتفع صوتي، السائق لا يرد، السيارة تسير في عتمة، ألمس يد شهاب وأفتح باب السيارة وأميل بجسدي للخارج، ثم أنفض جسدى وأطير خارجا، لكني أتلكع لحظة واحدة وأفكر أن أمد يدي وأسحب دب ابنتي، لكني لا أفعل، أتركه في السيارة وأتدحرج، يلمس جسدي الأسفلت، أتكور بشدة حتى الرصيف ويعود الشارع الذي أعرفه، تنحرف سيارة الأوبر وتختل عجلة القيادة وتصطدم بسيارات أخرى ويدوي صوت انفجارها وتتصاعد النيران كما في أفلام الأكشن المتقنة، أعدل جسدي قليلا دون أن أنهض من على الأسفلت وأفكر في “شهاب” قبل أن تهزني يد بقوة، أشعر بروحي تطفو وتفتح عيناي، فأجد ابنتي أمامي تمسك دبها وتحاول إيقاظي لتسألني: “ماما.. إنتي صاحية ولا نايمة”، أبتسم لها وأنا لم أفق بعد من الحلم الغريب، وأخبرها أني هنا.
أنظر لشهاب في يدها وأتمتم بأمر يشبه الاعتذار، أني تركته داخل السيارة في الحلم.
أحب أن أبدأ يومي باكرا جدا، لم أكن هكذا، لكن عادات المرء تتغير كثيرا، كما يتغير مزاجه وأنواع الأطعمة التي يفضلها حتى نكهات الآيس كريم التي ظننت فيما سبق أن تفضيلنا لنوع معين هو أمر مقدس يمثل أساس شخصيتنا، وعرفت فيما بعد أن كل شيء يتغير، قلوبنا ومصائرنا ونكهتنا الأثيرة للآيس كريم خاصة بعدما ظهر ألف نوع على الاقل.
لازلت أبتسم باطمئنان أو ربما شفقة للأنواع التقليدية الفراولة والمانجو والفانيليا والشيكولاته كلما وقفت مع صغيرتي أمام ثلاجة الآيس كريم المبهجة جدا في هايبر أو قويدر أمريكانا بلازا، ذلك الذي اعتبرت وجوده الجديد بالقرب من بيتي هدية خاصة لي يكورها القدر في يدي وهو يعرف ما بيني وبين فاترينة قويدر وسط البلد، وكيف أشتاق للمضي جوارها
تختار صغيرتي بعد تفكير عميق الزبادي توت والشيكولاته معا، أوالفانيليا وحدها. بينما أختار أنا الزبادي توت أو الشيكولاته الدارك وحدها، دائما ما أفضل نكهة واحدة في المرة.
تفسد مزاجي النكهات المتعددة، لابد من طعم واحد كل مرة..
كانت تلك تعويذتي السرية عندما كنت مراهقة، أن أجرب الحب مرة واحدة، وتتعلق روحي برجل واحد، أمنحه قلبي ويمنحني حكاياته.
أبتسم لتلك الفكرة الآن، خاصة بعد ظهور ألف نكهة أيس كريم في ثلاجات العرض.
تجمدت يوما أو اثنين بعد حلم التدحرج من السيارة، راقبت نفسي ربما ظهرت كدمات في جسدي أو شعرت بألم في مكان ما.
لكن الألم كان كبيرا في قلبي، غاصت روحي في ظلام يشبه ما صادفته في النفق غير المرئي الذي عبرته في الحلم.. تزامن ذلك مع مرض أصابني، كانت سلسلة مقلقة ومؤلمة من الوعكات الصحية استمرت لعدة شهور، يسلمني مرض غامض لآخر، إصابة غريبة لأخرى، لكني بعد ذلك الحلم أصابني اشتباه في مرض مخاوفي، أعرف أن كل منا له مرض مخيف يختبئ في عقله، يشاهد نفسه مصابا به في مرحلة ما من عمره، في حياة أخرى في رحلة سابقة أو قادمة، مرض متكرر في عائلته او حتى وراثي.
تصادقنا تلك المخاوف، وذلك المرض الشبح، يختفي في أيام التفاؤل او الانشغال ويطفو في أحيان كثيرة بسبب الهدوء أو الحزن وقد يمر على خاطرك بلا سبب فيبدو كأنك استدعيت الوحش أو بسبب نوبة خوف سكنتك أو حنين لأحد قضمه ذلك المرض من حياتك.
كنت مرتعدة كعادتي عندما أواجه مرض مخاوفي ذلك، كنت أفكر في صغيرتي وأبي الذي كبر عشر سنوات أخرى فوق عمره بمجرد أن مرضت، أفكر في أخي وأشفق عليه من الحزن والقلق اللذين يطلان من روحه ويقفان على أعتاب عينيه وهو ينظر نحوي أو يهمس لأبي كلما دخل البيت ويسأله “هي عاملة إيه دلوقت؟” ثم يكمل سؤاله بـ “خير إن شاء الله”.
مرت بضعه أيام مقبضة لكنها مرت، عدت اليوم لأستيقظ مبكرا لأول مرة منذ فترة طويلة بمزاج رائق وبلا ألم يذكر، أقف في مكان يتوسط صالة البيت، في المنتصف تماما، كلما استيقظت باكرا وكنت وحدي، أبي في حجرة وصغيرتي في الحجرة المقابلة وهدوء محبب يملأ الحي في الخارج، أقف في تلك البقعة وأبتسم، لأني من مكاني ذلك يمكنني أن المح الشجر في الحديقة الخلفية، والشجر الذي يحتاج لعناية عاجلة من الناحية الأخرى، رغم أني داخل البيت لكني في تلك اللحظة وفي ذلك المكان أبدو محتضنة من الشجر، ظلاله تغمرني وصت العصافير وحدها يملأ العالم من حولي.
شعرت بالجوع، كنت أشعر بسعادة وخفة تملأ قلبي، كانت الابتسامة تطفو على فمي بلا سببب، أحاول أن اوقفها لأنه لا سبب يجعل ابتسامتى تطفو هكذا مثل كرة ماء يحاول طفل دفعها نحو العمق لكني تنفلت منه وتبقى طافية، طفت ابتسامتى وفكرت في كلام طبيبة التغذية وهي تخبرني أن البطاطس المحمرة تنتقل مباشرة من الفم إلى شرايين القلب.
أعبر نحو المطبخ وأسحب حبة بطاطس متوسطة وأقف لاقطعها على شكل “صوابع” رفيعة جداـ أبتسم وأقول بصوت مسموع، كأني أكلم البطاطس “ألوميت”، فيما قبل كنت أفضل الشيبسي لكن مزاجي تغير في البطاطس والآيس كريم، ورأيي تغير في الحب والموت والمرض.
كنت أبتسم للبطاطس في طاسة القلي، وكنت أغني بصوت يصلح أن يقلق النائمين في البيت، لكني لم أستطع أن أخفض صوتي أو أتوقف عن الغناء، كنت أغني لعمرو دياب.
“يتعلموا يتعلموا من الرقة دي يتعلموا”، هل كنت أغني للبطاطس أم للخفة والراحة التي سكنتني؟ أم أغني لأن مزاجي رائق كما لم يكن من فترة طويلة، فرحة بالنجاة بعدما جاءتني بشارة الأمل وغاصت مخاوفي بعيدا عن السطح وغمرني الماء والحب الذي ينقذني كل مرة.
الحب الذي يحاوطني ويملأ قلبي وعالمي، وصغيرتي التي نقلت لها قلقي كل الأيام الفائتة، فتلف يدها حولي قدر ما تستطع كل ليلة وتسألني إن كنت “لسه تعبانة”، لكنها جاءت في تلك اللحظة مسرعة عندما تسللت رائحة البطاطس المحمرة لحجرتها فأيقظتها هي وشهاب الذي ابتسمت له ومددت يدي نحوهما معا وحصلت على قبلة وحضن صباحي محبب.