ممدوح التايب
في روايتها ” اليد العليا ” والصادرة عن منشورات المتوسط – ميلانو، تقدم الكاتبة والشاعرة المصرية إيمان جبل تجربة مشحونة ومكثفة ذات طابع تجريبي واضح. من الصفحات الأولى للعمل ننصت لصوت الراوي المتكلم ” فاني ” من داخل المنفى.
تُعد رواية اليد العليا للكاتبة إيمان جبل من الأعمال الأدبية الحديثة التي تطرح قضايا وجودية وإنسانية بعمق سردي متقن. تتميز الرواية بأسلوبها المتمرد على الأطر التقليدية، حيث تغوص في ثنايا النفس البشرية، وتسلط الضوء على الهويات المتشابكة والمنفى الداخلي الذي تعيشه الشخصيات. في هذه المراجعة، نستعرض أهم جوانب الرواية، بدءًا من الحبكة وانتهاءً بالأسلوب السردي والتقنيات الفنية المستخدمة.
تبدأ الرواية بمشهد يعكس إحساسًا بالاغتراب والتناقض، حيث نجد البطلة “فاني موسى” تجلس على رصيف غريب، تتأمل محيطها، وتنغمس في أفكارها المتمردة. الرواية تتبع أسلوب السرد الذاتي، حيث تسرد فاني تجربتها مع السلطة، المنفى، والهوية، مستخدمةً لغة عميقة ومشحونة بالتأملات الفلسفية.
تنتقل الأحداث بشكل متقاطع بين الماضي والحاضر، حيث نكتشف خلفيات الشخصية الرئيسية، ونشهد مراحل تطورها من طفولة معقدة وعلاقة متوترة مع الأم، إلى مرحلة النضوج حيث تجد نفسها ملاحقة بسبب أعمالها الفنية. في وسط هذا الصراع، يُفرض عليها اختيار قاسٍ: المنفى أو فقدان ذاتها من خلال الخضوع.
تميزت الرواية بأسلوبها الشعري الكثيف، حيث تحمل العبارات طابعًا فلسفيًا عميقًا. تعتمد الكاتبة على الاستعارات والصور البلاغية التي تعزز الحالة النفسية للشخصيات. التراكيب اللغوية تأتي مشحونة بالمعاني المبطنة، ما يجعل القارئ يعيش تجربة حسية وذهنية في آنٍ واحد.
كما أن استخدام تقنيات التداعي الحر والانتقالات الزمنية بين الماضي والحاضر يعكس طبيعة الاضطراب الداخلي الذي تعانيه البطلة. هذا الأسلوب يعزز من إيقاع السرد ويجعل الرواية أقرب إلى عمل أدبي تأملي يطرح أسئلة أكثر مما يقدم إجابات.
تعيش فاني أزمة هوية، حيث تبحث عن ذاتها وسط صراعات داخلية وخارجية، وتجد نفسها مشتتة بين ما يجب أن تكونه وما ترغب أن تكونه. من هنا تبدأ لعبة متقنة من الوهم، فالمنفى ليس كما نظن عن المنافي. وخلال النص تتعقدُ لعبة التهويم، وتبديل الأدوار، عبر تقنيات سردية منها ما هو كلاسيكي، كقلب الحبكة وتغيير مسار القصة، وما هو حداثي كاستنساخ شخصية من أخرى.
بعد قراءة ثلاثة أعمال سردية لإيمان جبل، بالإضافة لمجموعتها الشعرية ” كل هذا الدفء في عيني مريم” تشكلت لدي رؤية تخص بعض السمات التي تميز كتابة الروائية والشاعرة. تشغل الأمومة وهواجسها مكاناً مهماً في الكتابة، كما في لعبة البيت وقيامة تحت شجرة الزيتون. نحمل منذ الطفولةِ شعوراً نطمئن له، ربما خوفاً من الإيمان بأن للأمومة وجه آخر.
تكتبُ إيمان من المنطقة المحايدة بين الأم والكاتبة، وإن كنت لا أميل لوصف الأمر بأنه تدخل الذات الكاتبة في السرد، لكن هواجس الكاتب حتماً تحمل الكثير من روحه. نطمئن كأبناء وآباء وأمهات أن الأمومة تعني الطمأنينة، البر الآمن، مختصر البيت في صورة الأم التي كانت الحاضن الأول للتكوين، وما قبل الميلاد.
في اليد العليا تخالفُ الأم تصورنا المعتاد، فتصبحُ البديل للسجن، حامل القيدِ، وتمد مساحة الرحم لما بعد الولادة. لكنه رحمٌ من الممنوعات والمحظورات، جدرانه وهم خلف وهم، يعيش فيهِ موسى، وتخرجُ منه فاني.
في مقابل هذه الأمومة الطبيعية، أمومة الحمل والولادة والحمض النووي، تجئ أمومة أخرى. أمومة العمة. تقفُ العمةُ على الجانب الآخر من باب سجن الوهم، تمنحُ أمومة بديلة لكن دون أن تكسر حواجز الأم الطبيعية التي عاش موسى بداخلها. وبجانب هذه الأمومة توجد الأبوة، التي ربما تواطأت مع الأمومتين للحفاظ على صمود الجدران التي تحيطُ بموسى، وتضلله عن هويته، حتى تجبره أمومة أخرى، هي أمومة الطبيعة على اكتشاف الأمر، وأنه فقط مغلف بالوهم. وباعتبار قتل الأب سمة أخرى في كتابة إيمان جبل، يرحل الأب ثم العمة، لترك موسى في بيت جديد، دون أن يدرك ماهيته الحقيقية، حتى يجئ صوت من خارج دائرة العائلة، خوليو، ليظهر له بحكم الطبيعة الأم أنه ليس كما يظن، أو أريد له أن يظن. عند كسر الجدران، أسوار الوهم، يتخلى الراوي عن صوت موسى، ليخرج بصوته الجديد، الحقيقي، صوت فاني.
في نقطة أخرى، والكلام مستمر عن أسلوبية إيمان جبل في الكتابة، تظهر جدلية الهوية. في أعمال سابقة كانت الهوية محل بحث دائم للشخصية الرئيسية في العمل، مثل ماتيلد وليلى في لعبة البيت، والذات الشاعرة في ديوان ” كل هذا الدفء في عيني مريم”. في اليد العليا تصبح الهوية محل بحث دائم من فاني. تستعيد في المنفى تفاصيل الرحلة. يظهر أول خلل في الهوية من البيت، حيث يقضي موسى عشر سنوات معتقداً أنه صبي. عندما يخرج موسى من هذا الإطار المُحكم، يتبدل إلى فاني. هنا تحمل الهوية جسد الأنثى، لكن بداخله ذاكرة تربت على أنها ذاكرة لصبي. فالخلل هنا ليس فقط في اضطراب جندري، بل في اختلاف ذاكرة الجسد عن طبيعة الجسد نفسه.
يحمل المنفى إيهاما آخر يخص جانباً من هوية فاني. تقوم جهة عليا بتخيير فاني إما بالمنفي أو بالفضيحة، بعدما أخرجت أفلام تسيء للجهات العليا، التي تشير هويتها فقط إلى كونها جهات عليا. هوية المكان في الرواية أيضاً تحمل أيضا عنصر الإيهام، فلا بلد محدد، والثورة التي حدثت جاءت بهوية مستحدثة ” ثورة الهمج”. وخلال ذلك تظل فاني موسى تبحثُ عن قيمة هويتها وسط تجارب من التنقل من بلد لآخر، وطبقة اجتماعية لأخرى، لكل منها هويتها.
بالحديث عن التجريب وتقنيات الكتابة، كان لتوظيف الفن داخل الفن دوراً مهما داخل النص من خلال الأفلام السينمائية التي تقدم نمطاً من الميتا سرد. خدم ذلك حالة التوهم والخداع داخل النص، وربما على القارئ حينها أن يتحرى الدقة في كل يقين يصله خلال قراءة النص.
في تقنية أخرى جاءت الأحلام لتحمل بعداً آخر من أبعاد التجريب، لخلق مساحات إضافية للحركة ولوعي الشخوص. من خلال الأحلام ننتقل إلى بعد موازٍ للواقع، وأعني واقع النص الذي يفرضه على القارئ.
كذلك أجادت الكاتبة لعبة الاستنساخ. حيث تظهر الشاعرة سنية صالح بشخصها باعتبارها شخصية خيالية تم استنساخها من شخصية أخرى، حسب واقع النص، لها نفس الاسم. هنا يشتغل الإيهام وتجيد الكاتبة، عبر اللغة الشاعرية المكثفة، تعميق هذا التوهم لدى القارئ.
من نقاط القوة في النص هو التلاعب بتوقعات القارئ منذ البداية. حيث نعرف أن السرد يبدأ من داخل المنقى متوقعين أن الرواية تلعب في مضمار السرد السياسي، ثم في انتقالة سلسة ندخل في منطقة الإضطراب الجندري، ثم في انتقالٍ تالي إلى أزمة امرأة داخل علاقات معقدة، وفي النهاية لا يملك القارئ إلا أن يستسلم للأمر، وأنه في لعبة متقنة لكشف لغز كبير يشمل النص كله.
التنقلات داخل النص متعددة. فهناك تنقل كلاسيكي في زمن السرد بين الحاضر والماضي. بين فاني موسى المرأة والمخرجة وبين موسى الطفل ذي السنوات العشر. وهناك تنقلات مكانية، من بيت أول إلى بيت جديد، ومن بلد إلى آخر، ومن طبقة اجتماعية إلى أخرى، ومن حالة ارتباط إلى أخرى، ومن الواقع إلى الحلم، ومن السرد إلى السينما. سيمفونية معقدة ومكثفة من التنقلات تحتاج لقارئ يحب الألعاب السردية.
في نقطة لافتة في السرد، جاء صوت الراوي على طبقتين مختلفتين. الطبقة الأولى هي السائدة وهي صوت فاني موسى وهي تحكي عن سنوات ما بعد الخروج من دائرة البيتِ والعائلة، بهويتها الجديدة. الطبقة الثانية وهي صوت موسى، الطفل ذو السنوات العشر، حيث يبدو فعلا صوت طفل ذكر، مناسق تماماً لذكرياته التي يحكيها وحالة التخويف الدائمة له بتجنب الكشف عن أسراره جسده أمام الغرباء.
رواية اليد العليا تجربة مكثفة وبلغة شاعرية نجحت فيها إيمان جبل بشد خيوط السرد بإحكام شديد. وعن إيمان جبل فهي طبيبة بيطرية مصرية، صدر لها تجارب مختلفة في الرواية والقصة القصيرة والشعر، وتمثل كتابتها تحدياً للقارئ الذي يبحث عن كتابة جادة ومختلفة دوماً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شاعر وناقد مصري
شاعر وناقد مصري





