على الرغم من أنّ “اليد العُليا”، روايةُ إيمان جبل، وُضِعت تحت تصرّفنا، أو عُرِضتْ لنا، مواجهةٍ لتلقّي عددٍ من القضايا، فإنّي أرى أنّ انتصار الذات الإنسانيّة بالحب، ضدّ القمع والإيهام والمؤامرة التي تنسجها السلطة بشكلٍ عامّ، هو أهمّ ما يُترشّح عن الحكاية، التي جاءت على شكل مونولوغ داخليّ في معظم المساحة السرديّة؛ حكايةٌ متشظّية، خَلخَلت الكاتبة _في تقديمها_ الشكل، ومزجت في أسلوبها بين التركيب الشعريّ للجملة والفلسفي الذي ينطوي على تنويرّ، فانتجت نصا ينفتح في اكثر سماته وضوحا على الانزياحات الدلاليّة من جهة، واللاخطيّة في بثّ الحكاية من جهةٍ أخرى، مستثمرةً البعد السيكولوجيّ، والإسقاطات الرمزيّة للشخصيّات، مع الاعتماد في تشييد النصّ على بُنيةٍ غير تقليديّة لا تربط الأحداث بسببٍ ونتيجة، فتظهر للقارئ وحدةٍ معماريّة تتوافق مع طروحات الكتابة الجديدة، والتي تعتمد في تصوّراتها على عدم اليقين والتشظّي.
الشخصيّة الرئيسة( موسى فاني) تعيش حالةَ اغترابٍ جندريّ، رسّخته “اليد العُليا”، الأمّ التي لم تكن سوى آلةٍ قمعيّةٍ أرادت أن تُعالِج عُقدة الفقد لديها، بنَفْي فاني إلى منطقة (موسى)، وهو أصل العقدة التي قادتها للتآمر مع آخرين لوضع فاني في مختبرٍ تعتمد معادلاته على فرضيّة المحاكاة، فتعيش فاني في منفى ذهنيّ تعتقد أنّه واقعيّ، تتقلّب بين غيبوبةٍ وشكٍّ في حدوثها، تُقابل أشخاصًا وتعيش أحداثًا تكتشف في النهاية أنّها بتدبيرٍ من القائمين على إدارة المختبر؛ الهَمَج الذين وظّفتهم “اليد العُليا” لوضع المقادير لتجربة فرضيّة المحاكاة.
الرواية تشتغل في حقلِ التجريب الذي لا حدود له، لكنها تعتمد في بناء الحكاية على عدم اليقين، والشكّ في الوجود، والشكّ في الهويّة. ورغم ذلك، يعمل الوعي لدى فاني، الفنانة المُخلصة للسينما والموسيقى والرسم، على تأصيل نوعٍ من المقاومة. ثم تأتي نقطة التحوّل الكبيرة من خلال اكتشافها الحبّ، أو الوصول إلى حقيقة جسدها؛ هنا يتبدّد غيمُ الوهم، وتنكشف سماءُ الذات الصافية لفاني، فتشطب “موسى” الذي حملته في داخلها مثل مرض، وتحطّم أسطورة “اليد العُليا”، وتجبرها على الاعتراف بالهزيمة؛ الأمّ التي تترك تسجيلًا أخيرًا تقول فيه إنّها ليست أُمَّها، بل هي ثمرةُ العلاقة غير الشرعيّة بين أبيها والخادمة، وإنّها أرادتها لتكون بديلًا عن موسى، أخيها الذي مات بعد أسبوعين من ولادته. تكتشف فاني أيضًا أنّ خوليو، الرفيق الأمين، كان شريكًا في المؤامرة، وأنّ الرجال الذين مرّوا في حياتها مجرّد أشباح أو حيوات متوهّمة، وأنّ الشاعرة سنيّة صالح، هي ذاتها جارتها السيّدة سنيّة، في لعبةٍ سرديّةٍ اعتمدت في نسيجها على فرضيّة المحاكاة؛ الوسيلة التي تُعبّر عن القمع الذي تمارسه السلطة ضدّ فرديّة الذات واستقلاليّتها.
ومنذ البداية، يظهر في رواية إيمان جبل “اليد العُليا”، الاشتباكُ الشعريُّ في اللغة مع الفيزيائيّ والفلسفيّ، عبر فرضيّة “العالَم الموازي” أو المنفى، إذ تعرض لنا الوقائعُ الأولى فقدانَ الطمأنينة في مختبر “اليد العُليا”، ولا تبتعد الحبكة، في طبقةٍ أخرى منها، عن فكرة التوغّل التكنولوجيّ في حياة البشر عبر التدخّل الحاسوبيّ لخلق ما يُشبه الاندماج بين ما هو واقعيّ وما هو متوهَّم أو موازٍ.
لقد استثمرت إيمان جبل في روايتها طرحًا فلسفيًّا قديمًا وجد صدًى في البحوث الفيزيائيّة، وفي الجهد التكنولوجيّ حديثًا، لينتج عن ذلك فرضيّة متداولة عن إمكانيّة الحلول في شخصيّات الأسلاف، كما حدث مع شخصيّة موسى فاني في استدعاء الشاعرة سنيّة صالح عبر الجارة السيّدة سنيّة. لكنّ ثيمة الاغتراب الجندريّ كانت هي الموضوع الذي تدور عليه الوقائع، واستدعاء الشخصيّات لخلق عالَمٍ موازٍ ذهنيّ لفاني، قبل أن يظهر العالَم الواقعيّ من خلال مقاومة الوعي للإيهام المصنوع في مختبر “اليد العُليا”، التي لم تكتفِ بصُنع عالَمٍ من تشويهٍ جندريّ، بل تغريبٍ للمكان والزمان، على الرغم من أنّ فاني فتحت للقارئ، من خلال تأصيل فكرة المقاومة، نافذةً على المكان والزمان، باستدعاء أُغنية نجاة الصغيرة، أو باستدعاء الشاعرة سنيّة صالح.
وتفكّك الحكاية في “اليد العُليا” يتماهى مع طبيعة الشخصيّة الرئيسة التي صنعها الاغتراب الجندريّ، والنفي الذي لم يكن في النهاية سوى منفىً ذهنيًّا، ترسّخت وقائعه عبر فرضيّة المحاكاة التي اشترك في تنفيذها كلٌّ من: الأمّ، وخوليو، وآدم، والجرّاح. إذ تظهر ثيمةُ العمل متوافقةً بشكلٍ وثيق مع العديد من السيناريوهات في تاريخ الفلسفة اليونانيّة، أو النسخ المعروضة من سينما الخيال العلميّ. ويمكن إرجاع الفرضيّة التي اعتمدتها الرواية كمحيطٍ للحدث، إلى أمثلة أخرى، مثل: “حُلم الفراشة” لجوانغ زي، أو فلسفة (المايا)، أو في الفلسفة اليونانيّة، أو في الفنّ التشكيليّ والسرياليّة كذلك، كأنطباعاتٍ لمواقفَ حدثت في الأحلام، أو خلال لحظات الجنون؛ أشياءُ تحدث في الذهن تُقنعنا أنّنا ننتمي إلى عالَمٍ آخر نتماهى معه كليًّا.
لغة “اليد العُليا” تنحاز إلى الشعريّ في معظم نسيجها النصّي، والذي يبدو مرتبكًا أحيانًا، لكنه يتناسب مع شخصيّةٍ تُعاني اغتراب الهويّة، وارتباكًا بين الأنوثة والذكورة، وبرودًا في الحوار مع الجسد، وشعورًا بذنبٍ مُتوهَّمٍ غامضٍ، وجدت نفسها مُدانةً به من سلطةٍ رقابيّةٍ وقمعيّة، أجبرتها على اختيار النفي بسبب أفلامها الخمسة المستوحاة من أحلامها.
الشخصيّات في الرواية كلّها تعيش داخل دائرةٍ من الانكسار، وشعورٍ بالهزيمة: العمّة صفيّة، والأمّ، والأب، وخوليو، والجرّاح، وآدم، وفاني بالطبع، والتي تُعبّر في جزء من السرد عن نفسها بصيغة المذكّر. القضيّة التي شغلتني في بناء العمل هي الإفراط في اللغة المجازيّة والرمزيّة، وكذلك النَفَس المونولوجيّ، الذي جعل الصوتَ واحدًا. لكنّ الرواية تحتاج إلى قارئ لا يعتمد الحكاية وحدها لتحقيق المتعة، فالعَملُ مشحونٌ بالأفكار، وبالشعريّة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الرواية صادرة عن منشورات المتوسط 2025
*نقلاً عن أخبار الأدب
الرواية صادرة عن منشورات المتوسط 2025
*نقلاً عن أخبار الأدب