آمال صبحي
في رواية “وادي الفراشات” لأزهر جرجيس، الصادرة عن دار الرافدين 2024 نجد أنفسنا أمام نص سردي بالغ الدلالة، يستنطق جغرافيا بغداد المثقلة بالذاكرة والصراعات، ليقدم لنا بانوراما إنسانية مؤلمة تتجاوز حدود الزمان والمكان المحددين بين عامي 1999 و2024. عبر شخصية عزيز عواد، هذا “الموظف الحكومي” الذي يتحول قسرًا إلى “سائق جنائز” للمنبذين واللقطاء، تتكشف لنا طبقات عميقة من الفقدان والضياع، لا على المستوى الفردي فحسب، بل على صعيد الهوية الجمعية في عراق ما بعد الاستعمار والحصار والاحتلال.
إن تحول عزيز من حامل لأرشيف الدولة إلى جامع لأجساد المستبعدين يمثل في جوهره تفكيكًا لسلطة المؤسسة الرسمية وعجزها عن احتواء أو حتى الاعتراف بوجود هؤلاء “اللامنتمين”. يصبح عمله نوعًا من “ممارسة مقاومة” صامتة، إعادة كتابة لتاريخ المُستضعفين الذي طالما تم تجاهله أو إغفاله في السرديات الرسمية. فـ “وادي الفراشات” نفسه، تلك المقبرة البديلة التي أسسها الدرويش الغامض بدري النقاش، ليس مجرد مكان للدفن، بل هو فضاء رمزي يحتفي بـ “الآخر” الذي تم عزله، ويمنحه نوعًا من الوجود الرمزي بعد الموت، حيث تتحول أرواحهم إلى “فراشات مضيئة” – استعارة بليغة لتحليق الروح المحررة من قيود الجسد والتصنيفات الاجتماعية القاسية.
تتجلى في الرواية ثنائية المركز والهامش بشكل صارخ. فبغداد، المدينة التي كانت يومًا مركزًا للحضارة، تتحول في ظل الظروف القاسية إلى مسرح للتنحية والإقصاء. اللقطاء والمنبوذون، هؤلاء الذين لا يملكون نسبًا أو مكانًا في النظام الاجتماعي القائم، يصبحون تجسيدًا لهذا الهامش. إن اهتمام جراجيس بهم ليس مجرد تعاطف إنساني، بل هو مساءلة للسلطة التي أنتجت هذا الاستبعاد وتجاهلته. إن “وادي الفراشات” يصبح بمثابة “موقع مضاد” للسرديات المهيمنة، فضاءً يُعاد فيه الاعتبار لمن تم إسكاتهم.
إن المزج بين الواقعية والتخييل في الرواية ليس هروبًا من الواقع، بل هو أسلوب بلاغي فعال لتفكيك بنيته الصلبة وكشف تناقضاته الداخلية. ففكرة تحول الأرواح إلى فراشات، وإن بدت فانتازية، تحمل في طياتها دلالات عميقة حول إمكانية التجاوز والتحرر الرمزي من قيود الواقع المرير. إنها استعادة لـ “الممكن” في مواجهة “الكائن” القاسي.
كما أن تورط عزيز في تهمة تجارة الأعضاء يفتح نافذة مظلمة على هشاشة القيم الإنسانية في ظل الأزمات، ويكشف عن كيف يمكن للظروف القاهرة أن تدفع بـ الفئات المهمشة إلى حافة الجريمة، ليصبح ضحية ومجرمًا في آن واحد. هنا، تتجلى سلطة الظروف في تشكيل الوعي والسلوك، وهو ما يذكرنا بتحليلات غرامشي حول الهيمنة الثقافية ودورها في إعادة إنتاج أنماط القمع والاستغلال.
إن استقبال الرواية النقدي، ووصولها إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية، يشير إلى أهميتها في سياق الأدب العربي المعاصر. إنها تتجاوز مجرد كونها حكاية فردية لتصبح شهادة على مرحلة تاريخية حرجة، ومساءلة جريئة لسياسات الإبعاد والتمثيل. إن “وادي الفراشات” ليس مجرد مقبرة، بل هو “مكان للذاكرة المضادة”، حيث تُستعاد أصوات من تم إسكاتهم، وتُمنح قيمة لمن تم إغفالهم، ليصبح النص نفسه فعل “استعادة للحق” في الوجود والتمثيل. إنها دعوة لإعادة النظر في مركزية السرديات المهيمنة وإفساح المجال لأصوات الهامش التي طالما تم إزاحتها في تاريخنا الثقافي والسياسي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روائية سورية