هبة بسيوني
كرامتك هي أغلى ما تملك، لا يسير الأغلب الأعم بهذا المبدأ. بعض الأمثال المصرية القديمة تنصحك بالانحناء حتى تمر الموجة، وهناك ألف مثل بهذا المعنى منهم على سبيل المثال لا الحصر “إن كان لك عند الكلب حاجة قوله يا سيدي”.
لا أفهم هذا المبدأ منذ صغري، لماذا تحتقر شخصا وتعامله بنفاق لكسب حاجتك؟ إذا كنت بداخلك تُضمر له الشر، فلماذا تُظهر له الوجه الحسن وتبتسم في وجهه؟ وما علاقة الحاجة بصاحبها؟ المفترض أننا في بيئة عمل أو دولة قانون، ما علاقة قضاء الحاجات بمدى علاقتك مع الشخص؟! إذا كان لديك حق، المفترض أن تأخذه بغض النظر عن نظرتك لصاحبها ومدى “كلبيته” ولا يجب أن تسكب كرامتك على الأقدام لكي تُنجر أي شئ في حياتك، لأن ما لا تعرفه أن كل مرة تسقط قطرة من كرامتك يسقط معها شيء منك حتى تفقد نفسك بالكامل وتسقط معها إنسانيتك.
تذكرت هذا المثل الإنبطاحي وغيره أثناء مشاهدتي للفيلم الرائع “الحصن الأخير” The last Castle للمخرج رود لاوري، سيناريو وقصة ديفيد سكاربا الذي بنى عالما خاصا بقواعده الخاصة بشخصيات مؤثرة ومبنية بشكل ممتاز.
بسيناريو محكم، يدور الفيلم حول مجموعة من المساجين ذوي الرتب العسكرية في سجن به قواعد معينة، فعند إطلاق “النفير” وهو وسيلة التواصل بين السجانين والسجناء يتم الانبطاح من كل السجناء وهناك نفير للوجبات وهناك عقاب “تكديري” لكل من يخالف الأوامر (حبس في زنزانة منفردة لفترة يقررها القائد أو التكليف بأعمال لا جدوى منها يراها القائد مثل نقل الحجارة من مكان لمكان حتى موعد إطلاق النفير).
كل أنواع العقاب الهدف منها هو كسر الإرادة بداخل كل واحد منهم وسحب الأمل من أعناقهم، كما يجردهم السجن من رتبهم وهوياتهم فلا يجوز لأحد أن يدعو الآخر برتبته.
بسبب خطأ يتم سحب هويته ويُترك ككائن بلا ملامح. ببساطة في السجن تخلع كل ما تعرفه عن نفسك على عتبة أبوابه وتلتزم بقواعد أخرى، تمر عليك أيام بيضاء بعضها يشبه بعضًا تنتنظر فقط أن تنتهي مدتك. العقاب الأكبر هو أن تنتظر.
هناك ما بين الحشود التي فقدت الأمل، الجنرال الحقيقي الذي قام بدوره العظيم روبرت ريدفورد، الذي قاد معارك وله سمعة ممتازة وسجل حافل وإحترام بين الجميع، لا يعجبه الوضع القائم بالسجن من قائد لا يمتلك أي خبرة حقيقية في الميدان، أشعل في من حوله الحماس بسجله العسكري العتيد والذي لم تتخلله سوى شائبة واحدة ألقت به في السجن، ورفض مغادرته قبل ميعاده لأنه يشعر بالذنب تجاه بقية رجاله الذين تسببت غطرسته في قتلهم لأنه لا يهزم.الصراع في الفيلم بين قائد السجن الذي قام بدوره جيمس جاندولفيني وضباطه والجنرال الذي مثل للسجناء الأمل. المواجهات بين السلطة والكرامة. قائد السجن لم يتم إثبات أي انتهاك ضده لأنه يغطي نفسه جيدًا وبطريقته غير الآدمية صار السجن بلا انقلابات أو عصيان حتى بث الثقة داخل نفوس من حولهم وأعاد لهم (التقدير الذاتي) ومعه الإيمان.
معه ممثل مساعد (مارك رافيللو) في دور الطيار عديم المبادئ الذي يهمه مصلحته الشخصية فقط والذي يرى أن الجنرال مجرد شخص مجنون يحارب طواحين الهواء ويتصرف بعنجهية وسيؤدي لهلاكهم. كل أمله أن ينتهي حكمه ويخرج من بين الأسوار.. هل يذكرك بأحد؟
الشخص الناقم الذي يريد استمرار الوضع على ما هو عليه ويرى أن أي مقاومة بمثابة عمل انتحاري. ليس لديه مبدأ ولا قضية ويقضي وقته في جمع المراهنات على المعارك بين الجنرال والقائد، رغم أن والده كان صديقًا للجنرال نفسه ومن أبطال الحرب، فهو مختلف عنه تمامًا.. ومع ذلك فشخصية ردفورد استطاعت أن تُخرج الأفضل منه وبكل الأشخاص من حوله. هو من الشخصيات التي ترى الضوء داخلك. شخصية قيادية تعرف ما تفعل. أحيا بكل شخص الأمل به وأعطاهم سببًا ليحاربوا من أجله وأرجع إليهم كرامتهم بسبل عدة. أعطاهم شيئا ليؤمنوا به وقرر أن يستولي على السجن ويعلن العصيان حتى يقيل القائد الديكتاتور الذي يقوم بجميع الانتهاكات بلا رادع ولا دليل يدينه، وكجنرال عسكري سابق مخضرم رسم الخطة ونفذها بمساعدتهم ونجح في الإستيلاء على السجن حتى أنه نجح في تجنيد الطيار الواشي الذي لا يهتم بغير نفسه وجعله يساعدهم في سرقة العلم لرفعه بالمقلوب دليلًا على العصيان.
دفع ردفورد ثمن خطته حياته وتحققت له العدالة التي يريدها، لم يضح بأرواح أخرى ولحق بعساكره الذين تسبب في قتلهم في مشهد من مشاهد العدالة الشعرية.
الغضب والإحباط وفقدان الأمل هو ما يخلق الإرهابيين. الضغط يولد الانفجار، الضغط الذي يجعل أناسا يكرهون حياتهم ولا يقيمون لها وزنًا. فقدان الأمل هو ما يجعل شخصا يرتدي حزامًا ناسفًا ويفجر نفسه، لا رغبة في تغيير أوضاع ولا إضرار بنظام ديكتاتوري راسخ، بل رغبة في القتل.
القتل الصرف سببه (الغضب). الغضب الذي لا حد له هو المحرك الأساسي لأي شرور. أن تتقاضى ثمنًا لحياة لا تريد فعل أي شيء بها. أن تُسعر نفسك لأنه لا مستقبل لك ولا ولد ولا أمل في شيء.