تمثال رملي.. في أثر صَدَفة مرنة

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام
على أغلب ظني، يلوح من بين سطورقصائد هذا الديوان: “تمثال رملي” وهو الديوان الخامس للشاعر والباحث فتحي عبد السميع -الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب لعام 2012- لغز يمثل إحدى اللبنات المكونة لشخوصنا وذواتنا، وبالتبعية يمثل تحليلها وتفنيد مساراتها تمهيدا لفهم أنفسنا، وأيضا-ولو على مضض- تفهم سلوك الآخرين.
يتجلى أولى خيوط ذلك اللغز في قصيدة “الأعواد الصغيرة” والتي وضع بها بعض نظرته الخاصة الشارحة لموقف الجديد المشحون ثورة وغضبًا من القديم التقليدي الحذر كما في جمل:
نحن منهمكون في نفض دود يتطاير من حناجركم….نطل على أصابعكم لنذهب إلى عكس ما تشيرون إليه“.
عبر هذه المواجهة، تبدأ خيوط اللغز في التكاثف بمرور القصائد.
وبعد قدر يسير-خاصة عند قصيدة “لاصق طبي على فم الشاعر” نقف أمام سؤال مهم:
ما هي جدوى جملة نقاشاتنا على مر حياتنا، والتي تصل-أحيانا- إلى معارك حادة، سواء كانت على شرف أزمة عابرة، أو أي قضية كبرى؟
والمزمار مسلة صغيرة بثقوب
خيول تتزاحم في الحلق
ومخرج واحد لا يكفى.
حر لا يعزف بين الجدران
ثقيل على من أفنوا حياتهم في الغرف
يحتاج إلى آذان كبرت في الحقول
ولعبت كثيرا مع البراح“.
من قصيدة “المرماح”.
يبرز الشاعر إجابته عبر هذه القصيدة بعرض تصوره عن مدى صلته بأصله وتغلغله فيه، فنرى في اعتنائه بعناصر المشهد الذي احتفظ به من ملامح الماضي – مثل وضع العناوين الفرعية: “الخيول” و “الزانة” و “المزمار” و”الفارس” أساسا يبني عليه رؤيته كما في جمل كثيرة مثل:
تجري ولا تربح أرضا…وكأن الولي لم يقل: الحياة مرماح…سحرنا المزمار فحركنا حوافرنا ورقصنا…الكدمات تبدو متوردة مثل ابتسامة مكسوفة لعذراء” وهي كلها تعكس رغبة البقاء، وسعيه لإثبات أن مكمن أهمية الصورة وحيويتها مكتسبة من الجمع بين خيال صافٍ وفلسفة لها من القوة لقطف المتماس مع أفكارها، فتتحول الصورة من مجرد “فلكلور” إلى رمز يحاول صاحبه-الشاعر- أن يلتقطه من الحاضر وجشعه في اختزال الأشياء-وهنا اختار الشاعر المقارنة بين النبوت والشوم وبين الزانة-، ومن ثم يحركه على سجيته الأولى وفق ما يرى بجملته “زانة شبعانة من الماء والشمس”:
لاهيا لا حد له كذهن طفل وهائما لا نجاة من قدره كعقل زاهد
جاری معذور
عيناي وحدهما
تجعلاني أعتقد بأني حي
فكيف يقتنع الجار
بأن شقتي مسكونة
لمجرد أن بها حدقتين .
حتى الماء الذي يتسرب
من عقب الباب
لا يمكن أن يقود مخيلته
إلى أن في الشقة رجلا يبكى”.
من قصيدة “عينان بلا جسد”.
ومن جديلة الهشاشة والنقاء التي صاغها الشاعر في قصائد “عينان بلا جسد، وتمثال رملي، ورشف الشاي، ولساني للعالم”
مدخلا يبرر رغبته وحرصه عليها. فنجد عبر جملة “لا أمشي في شارع مرتين” بقصيدة “لساني للعالم” أو جملة “أنا الآن… أنا سريع الزوال” بقصيدة “تمثال رملي” إقرار الشاعر بسرعة تعاقب الزمن حوله واجتماع المتناقضات -من الأشياء والمشاعر- حوله مما يعجزه عن تكوين أسطورته الخاصة أو على الأقل بناء هوية محددة لذاته كاشفة طريقه. وكرد فعل لهذا يجهد نفسه بالبداية بمحاولة التغافل عنه -كما جملة “أمشي سعيدا بنواة النسيان” بقصيدة لساني للعالم -أو مسايرته والاحتفاظ بعلاقة خجولة مع أبناء الواقع -وهم نظرائه في البؤس كذلك- ليأخذ مساحة يراجع بها أثر تجاربه، ملتمسا معنى صافيا-كرشفة أخيرة من كوب شاي بحسب وصفه- عن نفسه ووجوده، بينما هم على جهة أخرى يجدون في تلك العلاقة متنفسا يسلي مرارة أيامهم-موضحا هذا في علاقة المجذوب والتجار بقصيدة “الحرب يا سلامة”-.
لا أهين أحدا حين أشتمه
أنتقم من آخرين
فاتني شتمهم في شبابي
أربك الجميع
سعيدا بأياديهم
وهي لا تأخذ فمى مأخذ الجد
وكأنها تدرى أننى لا أشتم
بل أودع الحياة“.
من قصيدة “وجه في قعر الكوب”.
إلا أن مع مرور الوقت وتتابع التجارب وما يصحبها خسارات وفقد-والتي أشار إليها بقصيدة تمثال رملي في “زعقة صغيرة” أو “موجة”- على ذاته الهشة، فإنها تنزع من الذات حيويتها، وبالتبعية تفتتها وضياعها قبل أن تصل إلى مفهوم متماسك عنها -أو بالأحرى ترى انعكاس وجهها كما بقصيدة “وجه في قعر الكوب”-. فتضطر حينئذ كمحاولة للمقاومة إلى الانجذاب والاستسلام لقضية أو فكرة ما، لحد يصل إلى قطع الصلة بالواقع ومستجداته. وبالتبعية تصبح للذات فرصة في تشكيل نفسها على أساس هذه القضية-أي تستخدمها كقوقعة خاصة-. ومن ذلك تستطيع أن تنشب نفسها -كما رمز الكاتب نفسه بذرات الرمل المتناثرة بقصيدة تمثال رملي- في الوجود بكل احتكاك تنتصر فيه، أو يكفيها -إذا أخفقت- أن تحل لغز نفسها وتفك جدوى تجاربها من خلاله. متوائمة مع مبدأ الكاتب الشهيد “غسان كنفاني” في أن الإنسان …قضية

مقالات من نفس القسم