مهاب محمود
هل نحن مجرد ضحايا لمحاولات التكرار؟ نعيش شيئًا إستثنائيًا، لحظة ما فريدة من نوعها، فنقع في حبها. ومن ثم تصبح حياتنا كلها بعدها محاولة لتكرار، وإستعادة تلك اللحظة الأشبه بالحلم اللذيذ؟
ناقش كيركغارد، الفيلسوف الألماني، هذه المسألة الشبه ميتافيزيقية، في كتابه “التكرار” وحاول أن يقدم عرضًا لها، ثم حلًا. قبل أن يكفر بالحل الذي قدمه، ومن ثم كفر بالنظرية كلها.
جاء كتاب التكرارعلى هيئة رسائل بين صديقين، كان أحدهما ثوريًا مخلصًا، خرج للتو من تجربة ثورية باءت بالفشل، والآخر يحاول أن يواسيه، وأن يجد له حلًا لتلك المأساة العويصة. فصديقه غير قادر على التجاوز، وفي الوقت ذاته، غير قادر على التمسك بذات المثاليات أكثر من ذلك، لأنها لم يعد لها معنى، لأنها، ببساطة، لم يعد لها وجود.
في الحقيقة أثناء كتابة كيركغارد لهذا الكتاب، كان هو أصلًا قد خرج للتو من قصة حب عنيفة، وفاشلة.
سؤالنا هنا: لماذا أسقط كيركغارد الثورة، على الحب؟ هل هناك أوجه شبه بين الحب والثورة؟ ولماذا أيضًا لانقوى، في كثير من الأحيان، على أن نتجاوزهما، أو أن تجاوز حقيقة فشلهما أو إخفاقهما؟
يمكننا أن نجد أشياء عديدة تجمع بين الحب، والثورة. أهمها جوهرهما؛ الشرارة.
يبدأ كل من الحب، والثورة، بشرارة، بحماسة، نشوة. حلم يوهمك بأنك بالقدرة على التحقق. قدرة على تحقيق كل شيء. وأن كل شيء هو قريب، وممكن وأحيانا يرتقي ويبدو لنا حتمي التحقق.
أطلق نادر أدراوس تشبيهًا جميلًا في صيغة تساؤل حول تشابه الثورة، والحب. قال: أليست الثورة أيضًا حبًا خاطفًا معلقًا بين المثاليات غير المحققة، والحقيقة الحزينة!
نعم الثورة حب خاطف. والحب ثورة عارمة. وكما تكبح، أحيانًا، بيروقراطيات الأحزاب، والحياة السياسية الرتيبة الثورات، تحبط، أحيانًا، بيروقراطية السيناريوهات الرومانسية المعهودة جموح أي قصة حب جديدة، وأصيلة. وكأنهما حبيسا الفشل. . وأي شيء يبدأ بنشوة، وينتهي بفراغ، يسعى لتكرار نفسه
لكن، والصدق يتحتم علينا ذلك، أحيانًا يكبحهما شيئًا آخر. بصدق تام، أحيانًا نحن من يحبطهما.
ما معنى هذا الكلام؟
لو تقصينا حياة كيركغارد، وقصة حبه، ودمجنا معها فلسفة الفيلسوف صاحب الأصل المغربي: آلآن باديو، نحو الحب، سنتمكن من الإقتراب من الفهم.
كان كيركغارد يرى أن للحب ثلاثة مستويات. أولها الحب الجمالي، أو الحسي، أي الإنتشاءي. وثانيها المستوى الأخلاقي، أو الإلتزامي، تجاه ذلك الحب. وثالثهما المستوى الإلهي، أو “السوبرماني”
ولكن السؤال هنا: لماذا فشل، فيلسوف واعٍ مثل كيركغارد له هذه النظرة الذكية تجاه الحب ومستوياته ومتطلباته، في قصة حبه؟ بل إنه هو من رفض الزواج أصلًا من حبيبته، ثم عانى إثر ذلك!
وهنا، وجب التنويه، سنرى لمحلة من لمحات تأرجح الفلسفة، حين يكون الأمر مجرد نظرية، وحين يتعلق الأمر بحياة الفلاسفة أنفسهم، ولا أميل إلى تسمية ذلك تناقضًا، أو نفاقًا، إنما تأرجح.. لأننا كثيرًا ما تكون أفكارنا أنبل من أفعالنا، ومادمنا فقط نعرضها، ولا نأمر بها، فلا بأس.
بتحليل بسيط لنظرية كيركغارد يمكننا أن نقول، بناءً على نظريته، أن ما جعل قصة حب كيركغارد فاشلة، هو فشله، في التحول من المستوى الأولي الجمالي، إلى المستوى الثاني الأخلاقي. فشله في التحول من مجرد ما يسميه الآن باديو اللقاء، أو الحدث، أو كما قلنا ” الشرارة” إلى مرحلة البناء، والتشيد.. مرحلة بناء” العوالم الجديدة”
ما لا ندركه أحيانًا أن الحب لايتوقف على حدوثه، إنما الحب فعلًا هو ما يحدث بعد نشوءه. والرهان كله على الحبيبين. فعليهما تحويل الحدث/ اللقاء/ الشرارة إلى فعل إلى البناء، إلى عالم جديد خاص.
والنظرية ذاتها تنطبق على الثورة. تبدأ الثورة فعليًا بعد أن تسقط الأنظمة لا قبل ذلك. حيث سيتحتم على مجموعة كبيرة من البشر، يعيقهم أكثر عنصر يعيق الكائنات البشرية كلها على الإندماج؛ الإختلاف الجماعي، على بناء، وتشيد مجتمعهم المنشود.
لماذا إذًا نفشل أحيانًا في الانتقال من المستوى الأول( المستوى الجمالي) إلى المستوى الثاني (المستوى الإلتزامي) مثل كيركغارد، ولماذا نفشل في تجاوز الفشل؟
في حالة كيركغارد. كان كيركغارد بنظرة سريعة، بعد فحص ملابسات قصة حبه، أثيرًا للجماليات. لقد هزم حب كيركغارد للحب، حبه نفسه، وعطله عن عملية التطور.
لقد سقط كيركغارد في حب اللحظية، في حب الوسيلة، أكثر من الغاية نفسها، بل وحولها- أي الوسيلة- بطريقة لاواعية تقريبًا إلى غاية قائمة بحد ذاتها. وهذا ما يقع فيه أغلب الرومانتيكيين من العشاق، والثوارعلى حد سواء؛ السقوط في حب اللحظة، وتغلب حب اللحظة على حب الهدف نفسه.
تلخص الكاتبة نورا ناجي في روايتها الأخيرة” سنوات الجري في المكان” هذا المأزق بإختصار بليغ، وبسيط في الآن ذاته، على لسان إحدى شخصيات رواياتها، قائلة” في ناس عايزة تعيش في ثورة على طول”
ويمكننا أن نصيغ الجملة نفسها على الحب. في ناس عايزة تعيش في حب على طول. وهذا في كلا الحالتين محال.
وهذا ما ينطبق على كيركغارد. ويمكننا ان نقول، وتصريح كيركغارد هو ما يفضحه حينما ينهي رسالته مع صديقه قائلًا” التكرار يا صديقي التكرار هل ممكن؟ هل يمكن تكرار تجربة الحب الأول؟
إذًا كيركغارد كان يريد أن يكرر الحب، لا أن يطوره. أن يكرر تجربة الحب الأول إلى ما لا نهاية، لأنه فشل في تجاوز نشوة الحب نفسها. ففشل في تجاوز المستوى الأولي من الحب، ووقع أثيره.
وهنا يمكننا أن نرى إحدى السجون التي يضع المرء نفسه فيها حبيسًا، دون أن يعي. محاولة خلق الماضي من جديد، عن طريق أليات استدعاءه.
لكن يظهر سؤال آخر ما الذي يجعل المرء حبيسًا تجاه أشياء فاتت، وإنتهت، بل إنه أحيانًا كما في حالة كيركغارد يكون هو من قام بتدميرها بنفسه؟
ببساطة لأن اسمرارنا في التصرف بإخلاص تجاه قضية ما، أو حدث ما، أو علاقة ما منتهية، يشعرنا بالقيمة، والأصالة، وبنوع من “السعادة الحزينة” التي تتدغدغ أرواحنا ونحن نحدق في هزيمتنا ونتوهم بأننا رغم الهزيمة لم ننس، ولم نستسلم.
وماذا يمكن أن يحمي الحب من الفشل؟ أو بشكل اخر: كيف ينتقل الحب من المستوى الأول، حسب نظرية كيركغارد، إلى الثان؟
لو لنا أن نستعير تشبيه” حرب بلا قتلى” ونقول، إن الحب بلا مجازفة، هو حرب بلا قتلى، وبما أنه ليس هناك، ولن يكون هناك- حتى لو كان هناك أنواعًا أخرى، متنوعة من الحروب، غير المسلحة- فهي أيضًا لها ضحايها، وقتلاها ولو مجازًا- حربًا بلا قتلى، فإنه ليس هناك حبًا بلا مجازفة.
والمجازفة لفظ يعني صراحةً احتمالية الخسارة. والحب، في حقيقة الأمر، لايعني احتمالية الخسارة، إنما حتميتها.
وحتمية الخسارة، أعني بها حتمسة التضحية، وهي خسارات بالفعل مفروضة على كلا الطرفين.
تلك التضحيات بالضبط هي ما تنفخ الروح في الحب، وتجدده، وتضمن في ثناياها دليلًا على بقاء الحب حيا، ودونها سيتوقف الحب عند نقطة معينة، ولن يتخطاها لأبعد.
التضحيات هي ما تضمن، حتى لأي علاقة إنسانية، بين أي فردين، أو بين جماعة من البشر، استمراريتها، أو كما يقول آلان باديو، نقلها من بدايتها، من مجرد الصدفة، والتعارف، واللقاء، إلى البناء، إلى أقصي ما يمكن أن تصل إليه العلاقة البشرية، أو الحب في إطاره العاطفي، إلى بناء عالمها الجديد، والخاص بأفراده، أفراد تلك العلاقة.
يرى رامبو، الشاعر الفرنسي، ضرورة إعادة ابتكار الحب من جديد، لأنه قد تم استهلاكه، وابتذاله، وتشويه- تخيل أن رامبو قد فارق الحياة منذ أكثر من مئة عام. ومن ضمن تشويهات الحب الحديثة، انتشار الوعد المسبق بالاستمرارية والوعد بالآمان، وهو عكس المجازفة، لأنه لا أمان في وجودة المجازفة بالخسارة. الوعد بالآمان كأسبقية قبل الدخول في الحب. لأن مجرد بقاءه، واستمراره هو سلسلة طويلة من التضحيات. وعد الآمان، أو اللاخسارة هو نفي للحب في حد ذاته. لكن يمكننا أن نوعد بالاستمرارية بأن نوعد بالتضحيات، من أجل بناء عالمنا الخاص.
لا وعد بحب دون مجازفات لأنه كمن يوعد بحرب دون قتلى، ولو حتى قتلى مجازيين.
لاحب دون مجازفة.. كما لاحرب دون قتلى..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كاتب مصري