إنها تتراءى لي ..

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد غازي النجار 

بِتُّ ليلتَها –كعادتي- أفتّشُ عنها وأفتحُ البابَ بعدَ البابْ

محبوسةً رأيتُها بينَ الخرافِ والسياجْ

 

ورأيتُها معزولةً معَ جذرِ نباتْ

شقَّ وجودَهُ فوقَ سطحِ عمارةٍ قديمةٍ بينَ السورِ والبلاطْ

ومنطويةً داخلَ كتابْ

لا تكشفُ نفْسَها إلا للمشتعلينَ شغفا

 

ورأيتُها ترتدي أقنعةً

تختفي منْ عيونِ اليائسينَ والخائفينَ والسطحيينَ والضعافِ ومحدودي الأفُقْ

 

ورأيتُها في “ضوءِ القمرْ” (*)

وكضوءِ القمرْ

مُطِلّةً منْ زجاجِ نافذةٍ في الليلْ

 

ونزلتُ إلىٰ الشارعْ

علىٰ الأسفلتِ والأرصفةِ رأيتُها

مسحوقةً تحتَ عجلاتِ السياراتِ والدراجاتْ

مدهوسةً بأحذيةِ العابرينَ المسحوبينَ بخيوطٍ خفيّةْ

 

وابتعدتُ قليلًا

فرأيتُها علىٰ التخومِ

بينَ الريفِ والمدينةْ

 

وحينَ ابتعدتُ أكثرْ

رأيتُها تلمعُ داخلَ فقاقيعِ العرقْ

 

ولمّا ارتحلتُ وتغرّبتُ

رأيتُها داخلَ نفْسي

كشلالٍ يتفجّرُ في أقصاها

ومُعلَّقةً كالمصابيحْ

في صدري والضلوعْ

 

سترونَها دائمًا في عيونِكمْ

حينَ تدقِّقونَ النظرَ في المرآةْ

 

وفي عيونِ الرُّضَّعِ

 

وفي عيونِ المحتضرينَ

 

وفي المقاهي حينَ تكتظُّ

 

وفي الشوارعِ حينَ تخلو

 

وفي خطىٰ حيوانٍ يقاومُ غزوَ الحضارةِ ويتْبعُ فطرتَهْ

 

وفي ارتعاشةِ الغصنِ منتشيًا بالريحِ والربيعْ

 

وفي كوبِ الشايِ مُلتمِعًا كالياقوتِ وقتَ الغروبِ

ينسكبُ الضوءُ الأخيرُ فيهِ فيجعلُهُ أشهىٰ

 

وفي قلبِ صخرةْ

حينَ تسقطُ منْ فوقْ

وتندلقُ علىٰ الأرضِ صرخةْ

وعُدْ إلىٰ الصخرة/الصرخة بعدَ فترةٍ وارفعْها

ستراها في كائنٍ عاشَ عمرَهُ كُلَّهَ تحتَها

 

وقبلَ النومِ بهنيهةْ

وعندَ الصحوِ فجأةً

ستراها

 

وحينَ لا يراكَ أحدٌ ستراها

خلسةً تمشي أمامَكْ

فاحتضنْها بذراعِكْ

ولا تصرخْ مِثْلَ أرشميدس “وجدتُها.. وجدتُها!”

وخذْها برفقٍ إلىٰ مُنتهَىٰ الإرادةْ

 

ولقدْ تجلّتْ لي كأجملِ ما يكونُ النهارُ في حديقةٍ ذاتِ طيرٍ ونهرْ

تجلّتْ علىٰ هيئةِ امرأةٍ سمّيتُها “هايدي”

———-———————————————

(*) ضوء القمر: سوناتا بيانو للموسيقار “بيتهوفن”. من ديوان “إنها تتراءى لي” .. صادر عن الهيئة العامة للكتاب 2024

مقالات من نفس القسم

علي مجيد البديري
يتبعهم الغاوون
موقع الكتابة

الآثم