لم أعد قويًا كما كنت!

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

سعيد شحاته  

كانت كلّما اقتربَ الليلُ أزاحتْه بيدِها اليمنى،

 وربتت على رأسي الملاصقةِ لقلبِها بيسراها…

وإذا أصرّ الليلُ على دناءتِه،

 خربشتْه بأظفارِها الخشنة،

 وهمستْ في أذني: ما تخافش.

وإذا هجمَ أكثر، خبّأتْني خلفَها وهجمتْ على صدرِه المظلم،

 لتقتلعَ قلبَه وتمضغَه،

ثم تحفرَ في أرضيةِ الغرفةِ الرمليةِ،

…….. حفرةً تليقُ بكلبٍ أسود..

كلبٍ فمُه ليليٌّ…

 بلا ذيلٍ… وبلا عينين… وبلا هويةٍ واضحةٍ…

 وتدفنه بجرأةٍ إلى جوارِ أقرانِه الليليين.

الآن يهاجمُها الليلُ بكلِّ جيوشِه…

ليقتصَّ لشرفِه  الذي أهدرتْه كثيرًا في عتمةِ الجدرانِ المِلْحيّةْ…

لكنّها تقاومُ…

وتنظرُ لي برقةِ قائدٍ دافعَ عمرًا طويلاً عن كتيبتِه،

حتى حاصرتْه السهامُ من كلِّ اتجاه…

الدموعُ تهزمُني… لم أعدْ قويًّا كما كنتُ،

لأنني بعيدٌ عن كتفكِ المنهك…

ولأنكِ مشتتةٌ في تلكَ الأوقاتِ الحرجة…

أبكي كطائرٍ ضئيلٍ…

(-ما تعيطش…

– اجمدي…

– أنا كويسه…)

لستِ بخيرٍ… فمُكِ الذي كان يعصرُ لي القصبَ في فمِي…  لم يعدْ قادرًا على الكلام…

وذراعُك التي كانت تزيحُ الليلَ… لم تعد باستطاعتِها تحمّلّ إبرةَ المحلول…

وأظافرُك التي كانت تخربشُ الغربانَ ضَعُفت وتآكلت…

وأنا الذي كنتُ أظنُني أقوى من ذلك خارتْ قواي….

تجبرني ظروفي على الابتعادِ بعضَ الوقت…

أبتعدُ مرغمًا… لأقابلَهم جماعاتٍ وفرادَى…

أضحكُ بينهم…  وأبكي في دوراتِ المياه…

 أو في الأماكنِ الفارغة… أو في حجركِ البعيد…

 لكنني لا يمكنُني البكاءَ في الليل…

لأنني لا أودُّ أن أمنحَه فرصةَ الزهوِ بالنصرِ علينا…

…………… فأنتِ لا تزالين فوق خطِّ المواجهة…

تحركين شالَك في الهواءِ بصعوبةٍ

لهشّ الأعينِ الخبيثةِ من فوقِ عتبةِ البيتِ

تحرسينَ بأنفاسِك المنهكةِ ما تبقّى لنا من حياةٍ…

(-خد القبض بتاعي اشتري بيه هدوم لك عشان تبقى حلو وسط زمايلك…

– معايا فلوس والله… أنا حلو وسط زمايلي بيكي… قومي بس انتي والدنيا كلها هتبقى حلوه)

في السفريةِ الماضيةِ إلى القاهرةِ…  

 كنتُ أنتظرُ قيامَك من فوقِ السريرِ لتسلمّي عليّ

 وتخرجي الورقةَ فئةَ المائةِ أو المائتي جنيهٍ من جيبك، وتدسّيها في يدي:

(- أنا معايا والله..

– ما تكسفش إيدي...)

هذه السفريةُ كان السريرُ أقوى مني،

لكنني تغلبتُ عليه… لأنني أجلستُك قليلًا… وتحدثنا…

وسمعتُ صوتَك تطلبينَ من سماء

أن تملأَ لي شنطتي بالطعامِ والحلوى والسكرياتِ

 وعلبِ البسكويتِ والقصائدِ الجميلة….

(_ما تغيبش عليّا..

– يومين وجاي.. ما تقلقيش… بس ما تحطوليش أكل في الشنطه…)

لا أحبُّ الشنطةَ المكتظةَ بالحلوى

قلتُ هذا كثيرًا لزوجتي،

وطلبتُ منكِ أكثرَ من مرةٍ استبدالَ الدعواتِ بالحلوى

لأن دعاءَك في شنطتِي ونسٌ في طريقٍ وعرة

وزادٌ وزوادٌ لجائعٍ  يقتاتُ على محبةِ أمٍّ صامدة

مر أكثرُ من خمسةِ أيامٍ وجسدي في بلادٍ بعيدة…

 أسمع صوتَك ضعيفًا على غير عادتِه في الهاتفِ…

(-ربنا يحبب فيك خلقه والحصى في أرضه..)

سبعةُ أيامٍ من الغيابِ…  وأنتِ تحاربين الليلَ…

مدةٌ طويلة،  لكنني مرغمٌ عليها…

فهنا لا توجدُ قلوبٌ دافئةٌ كقلبِك،

ولا يوجدُ من يمكنني البكاءَ بين يديه… غير الخفاء…

(-العلاج دوخني…

-حاضر.. والله غصب عني،

-ما تزعلش حد… ربنا يجعل خيلك رابح يا سعيد يا بن قلبي يا رب)

أدخلُ في كهفِ الصمتِ،  أراقبُ أوراقَ المادةِ التي سوف أمتحنُها في صمتٍ،

 أردُّ على هاتفي في صمتٍ، أرمقُ الطعامَ في صمتٍ،

 أضحكُ أمامهم…  وأبكي في دوراتِ المياه…

أنتظرُ كتابةَ اسمي على ورقةِ الامتحانِ لإثباتِ الوجودِ ليس إلا…

أسرعُ خارجًا للتعلقِ بأقربِ طائرٍ… يمكنُه أن يشقَّ هذه المسافةَ الطويلةَ…  للعودةِ إليها..

وهي تحاربُ جحافلَ الليلِ… فتطمئنّ بأنني هنا…

أجلسُ أسفلَ قدميها بأعوادِ القصبِ…  وعلبِ الدواءِ، وابتسامةٍ مشبعةٍ بالدموع…

(-نفسي أقوم أنزل الشارع، وأشوف الناس..  اِنت قاعد تعيط ليه دلوقت، هو أنا فيّا حاجه)

أجفّفُ قلبي من دموعِه،  وأكررُّ الابتسامةَ في وجهها،

 فتشير إلى شنطةِ اللاب:

(-قوم اغسل وشّك واكتب لهم حاجه حلوه عشان يحبّوك)..

لستُ قادرًا على الكتابةِ…

لأنكِ لستِ قادرةً على النزولِ إلى الشارع…

 

مقالات من نفس القسم

علي مجيد البديري
يتبعهم الغاوون
موقع الكتابة

كورونيات

يتبعهم الغاوون
نورهان أبو عوف

الساحر