Sound of metal في الانتقال من لغة لأخرى

صوت الميتال
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

رابح مالك

قبل أن يصنع Blue Valentine 2010 ، كان المخرج ديريك سيانفرانس يعمل على وثائقي بلمسة روائية (Docu-fiction) عن عازف طبول لموسيقى الميتال يفقد سمعه. لا نعرف ما إن كان التمويل قد نفد أو أن سيانفرانس فقد الشغف، كل مانعرفه أن المشروع توقّف.

لاحقًا، خوفًا من أن يموت الفيلم على الرفوف، طلب سيانفرانس من داريوس ماردر ( شريكه في كتابة The Place Beyond The Pines ) أن يكمله. رفض ماردر مقترحًا أن يأخذ القصة ويعيد كتابة السيناريو؛ أن يصنع الفيلم بلُغته هو، لا أن يُكمل على لغة سابقه.

يدَشن المشهد الافتتاحي لفيلم  Sound of Metal روبن (ريز أحمد في أفضل أدواره حتى الآن) كشخص يُمسك بالسَكينة على هيئة عصيان خشبية، كل ضربة على الرقع دفقةٌ منها، إنه طليق خلف الطبول، بينما شريكته لو (تؤدي دورها ببراعة أوليفيا كووك) تلعب الجيتار وتصرخ في الميكروفون.

الأضواء الفاتنة والصوت العالي، الاحتفالي في صخبه، تغرس في رؤوسنا بمَكر، كجمهور غير فاقد للسمع، المشهد كموضع آمن: روبن، من العالم، حيث ينبغي أن يكون.

دقائق بعد ذلك المشهد، فجأة، يبدأ روبن بخسارة سمعه فيتحوّل الموضع الآمن إلى فردوس مفقود يتوق إليه روبن في دورانه فيما بعد الفقد، ممسوسًا بالفكرة، تأكل ما عداها: عليه أن يعود مجددًا إلى هناك، مقيدًا بفلسفة متجذَرة في دواخلنا: تمام، كل شئ يُمكن إصلاحه.

يسلك الفيلم مذهب الكاتب الأمريكي جورج سوندرز بأن يرصد قواعد الخصوصية (ما هو لون الثوب؟ كيف يمسّه الضوء، ماذا قال؟ ماذا قالت؟) واثقًا أنه بذلك يخلق فلسفة أكثر تعقيدًا وإحكامًا من أي أجندة كان يود طرحها مسبقًا. هكذا بواسطة شئ بسيط كسيجارة، نعرف أن روبن ولو كانا مدمنين فتظهر لنا الفترة بين المشهد الافتتاحي وفقدانه للسمع، ذلك الصباح الرائق التالي على الحفلة، سجّادة فُرشَت على الزجاج المتكسَر للماضي، مشى عليها روبن ولو بأطراف الأصابع.

تتداعى الأشياء في الحافلة المتنقلة حيث يعيشان، سابقًا طفت هنا حياة هادئة من شعرية الأفعال الاعتيادية والحوارات الصغيرة، لكن الآن، بعد فقدان روبن لغة تواصله مع العالم وحصره مع العفاريت في رأسه، تتلاشي لمحات سكينة المشهد الافتتاحي التي عبقت الأجواء بينما تسير الحافلة على منحدر التوتّر، التوتّر الذي يبدو لنا هاجسًا بحدوث انتكاسة.

هناك تيار من الأفلام يتدفق الآن في الولايات المتحدة، يدفع بالشخصية الرئيسية إلى ثقافة مغايرة، مُهمشة في الأغلب وغير ممثلة، وفي الوقت نفسه يدعوها إلى فضائه، لتوفر ديناميكية العلاقة بينهما وسيلة خلاص (أو اكتشاف ذات) للشخصية الرئيسية.

يحدث ذلك في أفلام مثل American Honey (2016) لأندريا أرنولد، Give Me Liberty (2019) لميخائيل ميخانوفسكي وNomadland (2020) لكلوي تشاو، أفلام نرى فيها دينًا لتيرانس مالك وتوجّهًا طبيعيًا، مبنية على مقالات في الصحف أو مقابلات حقيقية، وتؤسِس بالضرورة لشخصياتها الرئيسية، التي تُطل علينا كمنازل آيلة للسقوط، عزلة آسرة مع المحافظة على اتصال بالبشر، مستخدمة مقاربة وثائقية وتوظف طاقمًا من الغير ممثلين أو شخصيات من تلك الثقافات المغايرة.

وكما تضع  تلك الثقافة نفسها (ثقافة بائعي المجلات المتجّولين في American Honey أو الرحّل في العربات في Nomadland على سبيل المثال) في اتجاه معاكس لمجتمع تتجلى أخطاؤه المتأصلة ظاهرة، تضع تلك الأفلام مقاربتها للموضوع المطروح على ضفة مقابلة للمعتاد والمتوقع من السينما الأمريكية؛ بدلًا من الانغماس في معالجات سطحية تليق بكتب المساعدة الذاتية أو المشاركة في تخدير المشاهد بحلول نصف مخبوزة، يخاطر صانعوها، بالضبط كما خاطرت شخصياتها المتمردة على المألوف، فيختاروا طرقًا قلّ سالكيها.

إن تلك الأفلام ترحل عن الوعي الذي نشأت فيه المشكلة، ترفض اللغة السائدة فتخلق لغة جديدة خاصة بها، وصوت المعدن (الذي انبعث للحياة بالأساس عبر انتقاله من لغة لأخرى) ليس غريبًا عن هذا التيّار؛ أشياء تقنية مثل حتميّة استخدام التعليق النصّي (Caption) أو قصصية مثل اختيار لو، أول شئ، بأن تتصل بالراعي (Sponser : الشخص المسؤول عنهما في رحلة التعافي من الإدمان)، هي أشياء لا تقع في غير تلك اللغة الجديدة.

عن طريق هذا الانتقال يدفع روبن، خشية أن تحدث له انتكاسة، إلى مجموعة للتعافي من الإدمان (Recovery Group) وبما أنه فقد سمعه فإن هذه المجموعة تنتمي إلى مجتمع فاقدي السمع.

هكذا تتم الدعوة.

عَبر شخصية المرشد في المجتمع الجديد چو (بول رايسي: حركات واثقة ووجه يحمل في تجعيداته أثر الطريق) يعلن الفيلم أنه لا يتعامل مع فقدان السمع كفجيعة، بل كتغير تخضع كيفية استقباله والنتائج المترتبة عليه، لعقلية الفرد.

يُطلب من رُوبن أن يتعلم كيف يكون فاقدًا للسمع ويتم اختيار اسم له في لغة الإشارة لكن روبن يتحرّك بحقيبة ممتلئة بالشكوك المعلّبة والاستغلاق الذي يؤكل على العشاء، في ملامحه الصبيانية إحباطات من لا يفهم لماذا هو عالق، ولأن وجهة النظر في الفيلم هي، في الحقيقة، وجهة سمع (نُغمر فيها بواسطة تصميم صوت أصيل ومُتقن): نجد أنفسنا عالقين معه في عقله، أمامنا تستلقي أفكاره ونوازعه على اهتزازات وذبذبات خفيضة، نشعر معه بالذعر حينما يكون على وَشك التشقق ونغضب مثله عندما يسند إليه چو تمرين الجلوس في غرفة فارغة عوضًا عن محاولاته المستمرة لتصليح الأشياء.

لا يستخدم ماردر موسيقى تصويرية ليجعلنا نحسُ شيئًا ما، حين يردّنا من الحصر في عقل روبن فإنه يترك صوت أوراق الشجر يحرّكها الهواء لتقوم بالمهمة، أصوات الملاعق على المائدة أو بهجة أطفال يلعبون في أحد الحقول. يلمح المشاهد السكينة تمس رُوبن، في اندماجه في اللغة الجديدة، لقد قبض عليها وهو جالس بعد ذلك في الغرفة الفارغة، تتمطى عبَر النافذة على صوت العصافير، لا بُد أنه أحسّ، ولو لوهلّة، بما كان يحس خلف الطبول.

لكن بينما انتمت كلمات مثل اللحظة الحالية، الهنا والآن إلى اللغة الجديدة عبثت كلمات مثل الماضي والمستقبل في اللغة القديمة، بمجرد أن تُجلب سيرتها ينزلق روبن مجددًا إلى حقيبة الشقوق وهوس التصليح، رافضًا أن يقصيه التغيّر عمّا كان له، إنه يفعل الأشياء التي تعرّف كلمة انتكاسة، من دون أن يدُمن: يبيع كل شئ ليحصل على العملية.

يسأله جو عن كل الصباحات التي أمضاها في الغرفة، هل استطاع وحصل فيها على قدر من السكينة، التي تجعل العالم القاسي محتملًا، السكينة التي هي مملكة الرب؟ لا يجيب روبن على السؤال، في وجهه التهاوي في سلوك إدماني وكسره الثقة بينه وبين أعضاء المجموعة، إنه يُدرك تمامًا أنه كَفر بتلك السكينة، وها هو يُطرد منها.

إن صوت المعدن، كفكرة، صوتان. الأول نتعرف عليه في المشهد الافتتاحي: حرفيًا ومجازيًا في الوقت نفسه. إنه روبن خلف الطبول، يتحدث لغة مملكة الرب، يحسُّ التناغم في العالم ويحقق، بحسب تعبير ماركوس أوريليوس، الألوهة في داخله.

عندما يفقد ذلك، يظهر صوت المعدن الثاني في البداية مجازيًا (هو إصلاح الأمور والعودة إلى اللغة نفسها) ثم حرفيًا (ألواح معدنية في رأسه، تتجاوز قوقعتي الأذنين، فتخدع المخ وتجعله يظن أنه يسمع) لكن اللغة، التي عاد إليها رُوبن بسبب ذلك، ليست سوى مكسور لغة عرفها، موتّرة ومنفّرة كمعدن يحتك بمعدن ولغة أخرى غريبة عنه (الفرنسية) وجد لو مدمجة فيها، بشعر قصير ولباس مختلف.

في المشهد الأخير للفيلم، بعدما خسر روبن كُل شئ وأدرك استحالة العودة واقعًا، تدهمه الضوضاء من كل جانب (جرس كاتدرائية، حركة السيّارات، أولاد يلعبون حوله) فيفصل رُوبن الألواح المعدنية.

يخبرنا ماردر أن ذلك المشهد هو انعكاس للمشهد الافتتاحي وأن صوت المعدن، عنوان الفيلم، هو بالأساس تعليق نصّي (Caption)، أي غير مسموع، موجود في لغة أخرى غير لغة الجمهور غير فاقد السمع، كما لو كان يدعوهم إلى فصل ألواحهم المعدنية والانضمام إلى روبن، للحظة هناك، في مملكة الرب. لقد قال لا أخيرًا، كما قالها قبله داريوس ماردر وقالتها أفلام الثقافات المغايرة، ها هو يجلس هناك، على مقعد بدون طبول، حيث العالم كله الآن، صار غرفة فارغة.

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي art 14
Uncategorized
موقع الكتابة

انتحار