“مداخل الجحيم: سؤال الشِعر واقتراحات الشِعرية في ديوان (ببطء كأنه كبرياء)

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

كريم أبو زيد 

في ديوانه “ببطء كأنه كبرياء” الصادر عن دار الدراويش –ألمانيا2022، يطرح علينا الشاعر مؤمن سمير عملاً مثيراً للتأمل كعادة دواوينه وخاصةً في السنوات الأخيرة، حيث يقدم من خلاله اقتراحاً جمالياً يقوم على طرح مضمر لسؤال كبير يُعنى بالشِعر ومداخله و منطلقاته، وتقديم إفادته بشكل فني متضمَّن عبر الأداء الشعري في الديوان، لتظهر الاحتمالات في مرآة المتلقي المرنة والمتسعة مما قد يؤدي في النهاية لتضفير العلاقة بين أطراف العملية الإبداعية، الشِعر والشاعر والقارئ، لتتعاضد الأطراف الثلاثة في خلق المعنى وإنتاج الدلالة. يُظهر هذا العمل كيف أن الشاعر يتبدى في هيئة المهموم والمنشغل والقلِق الذي يدخل العملية الإبداعية من بوابة طرح اليقينيات جانباً واختبار احتمالات أخرى طول الوقت وهو القَلَق الذي ظهر جلياً في أعماله السابقة على شكل طرائق وأساليب فنية متعددة  ومفتوحة على التأويلات، لكنَّ هذه الرغبة المحمومة في عدم التسليم بأي منجز والبحث الدائم عن آفاق جديدة، ربما تركزت وتجمعت تجلياتها كسؤال مؤسس، في هذا الديوان بالذات. ينشغل المبدع هنا بسؤال الشِعر والمداخل التي تؤدي إلى خلق وجود فني وتحقيق كيان شِعري، والقيم الجمالية التي تصلح عند رفدها بالطاقة الفنية السحرية الملتصقة بكينونة الشِعر، لأن تخلق حالات شعرية تُسائل هذا العالم وتعيد تشكيله على هيئة قصيدة. وهكذا يحمل عنوان الديوان قيمة رمزية للبطل الهابط في أرض القلق الفني الزلقة بغير يقين، لكنه رغم هذا-لا يغفل كونه الحامل القديم للاقتراحات و مقدم المحاولات اللاهثة طول الزمن الفني الأقدم، تلك التي تظل حية وتنبض رغم جموح هاجس الاجتراح والتجديد ونشاطه، وبهذا يتحسس المبدع طريقه ببطء المتوجس ولكن بامتلاء صاحب التاريخ السابق من الرؤى الفنية التي تم اختبارها والتي ربما لن تنتهي صلاحيتها إذ لا نهاية مطلقاً لأفق القصيدة. إنه يحاول أن يقنعنا بأن الِشعر لا يستحق أن يُسجن في قِدْرٍ واحد ولا يليق به هذا خاصة وهو الذي أوهم كل متدلهٍ بأن (الطريق) إليه يخص (طريقته) وحده بينما الحقيقة أن الجمال أكبر من الحصر في شعاع ذهبي واحد.. والحال هكذا، ربما يكون من الأوفق التعاطي مع فهرس مواز لفهرس قصائد الديوان، قمنا باقتراحه، لتتضح  المداخل  والقيم الجمالية التي ارتأينا أن الشاعر اختبر صلاحيتها لإنتاج الشِعر عبر القصائد. وهذه النوافذ أو الموتيفات الفنية أو العلامات الجمالية الكبيرة، تنتظم نصوص الديوان بالكامل حيث يقدم بعضها نصاً كبيراً واحداً وبعضها الآخر يجمع نصوصاً مفردة متعددة ومختلفة ، وهي كالتالي: شِعرية التعرِّي وتقشير الظلال- شعرية التحليل وتفكيك القيم- شعرية الإشراق- شعرية التشظي- شعرية البوح ومواجهة النوستالجيا- شعرية الزمن الحي أو الماضي المتمثل في صورة حاضر- شعرية الأسطورة وإعادة الخلق والتكوين. وبالطبع لا ننفي التداخل بين الأغراض والموضوعات إذ قد يعبر نص ما عن أكثر من محور لكننا حاولنا المقاربة واقتناص الشعرية وعملها عن طريق العلامات الأكثر امتداداً واتساعاً.. وبعد أن اقترحنا هذه المداخل الفنية، نحاول الدلوف إلى الديوان عبرها، آملين أن تثبت صلاحيتها في مقاربة الفكرة الأساس التي ارتأينا أن المبدع حاول تحقيقها في عمله هذا:

(1) شعرية التَعرِّي وتقشير الظِلال: 

عبر الفن، يتم التأكيد هنا على أنه لا سبيل لاستكناه جوهر الأشياء إلا عبر إزالة الحواجز الحية الساخنة وكذلك المتوهمة التي خلقتها الثقافة والعرف والعادات والتقاليد، ومن أبرز العلاقات الاجتماعية التي تحتاج إلى هذا الفعل، العلاقة بين الرجل والمرأة التي تحاط غالباً بموجات من القمع القائم على المراقبة والتلصص وهتك الخصوصية، كذلك من أبرز العلاقات النفسية الغائمة التي تبدو دوماً في حاجة إلى الكشف، علاقة الذات بنفسها وتاريخها الشخصي التي قد تشبه دولاباً ضخماً يحوي أرتالاً من الملابس التي تمثل جلوداً أخرى فوق الجلود مما يثقل حركة الإنسان ويكبِّل تنفسه وانطلاقات روحه وإبداعاتها . ينتظم هذا المحور قصيدة واحدة بعنوان “تمثالان من الحرير” تمتد من صفحة11 وحتى صفحة 25 حيث يتماهى الشِعر مع هذا الجوهر النافذ للعمق باعتباره القادر على تلمس حقيقة الأشياء وكينونتها الأولى وحالتها البدائية الصادقة، الغُلف، بدون أغطية من التصورات القدرية والتاريخية.. من أجل هذا ظهر هذا النص عبر قصائد ومقاطع قصيرة بلا كلمات زائدة وبصياغة متخففة من المجازات الثقيلة التي قد تدير الرؤوس فتحجب الرؤية. لقد كان التعري كنزاً محجوباً: العريُ مرآة عجوز/ظلت تحلق في صندوق ص11حتى جاء الفعل الطامح للكشف: أحرق ملابسي كلها/لأتنفس ص11 ثم اكتشفتُ ذاتي باكتشافِك أيتها الحبيبة/المثال: أتعرى/لأكشف ما تحت جِلدك ص12 ويصير التعري مجالاً للتماهي بين الروحين كما هو بين الجسدين: العاري يحلِّق في حصن العارية/ والعاريةُ تجوب السماء ص22 ثم يظهر العري كأنه هو القادر: العراةُ عميان/العراةُ يشوفون ص16 والأنجح في صنع الفِخاخ التي تشد التواريخ بعدما تستَّفت فوق أرفف الذاكرة  وعلى جلود البشر الأقرب أصحاب العلاقات الملتبسة بالذات: لا تقتليني الآن/ أنا عارٍ يا أمي ص12 وربما يكفل التعري بما يوهبه للروح من قدرة على الانطلاق، مجالاً للثقة في القدرات الشخصية: أتذكر عري أبي وجَدِّي/ وأصم أذني عن صراخهم ص12 وربما الانتقام: أظافرنا تكبر في عرينا ص17 لقد حقق لي عريي ما كنت أنشده من نور ونفاذ لبصيرتي: يا أبي/أنا عارٍ أصيل/لهذا لن أعود إليك ص22 لهذا سيبقى التعرِّي نقطة انطلاق لحياة قادمة على مقاس الوعي الجديد الذي تحقق: عُريي يحميني من غوائل الزمن ص18إذن يخرج الشِعر في هذا المحور من الكشف عن الروح الخبيئة وما يستتبعه هذا الكشف من تلمس للذات ومحاولة فهمها وطرح شعرية متوترة تكافئ هذه المشاعر سواء عند وقوعها في اللذة الحسية أو عند تصوير لحظات التحول الدرامي في حياة البطل.

(2) شعرية التحليل وتفكيك القيم:

وينتظم هذا المحور نصان هما: “حديثٌ عاطفيٌّ عن قطار بذكرى طائر”، ” نافذتي عمياء نافذتي بلا سيقان” تعتمد فيهما الشعرية على طرح نقطة انطلاق تتأرجح بين الواقع والخيال، تفتح أبواباً متشعبة من الاحتمالات والتصورات والحكايات الصغيرة، الحميمة منها والسريالية، حيث تتوسل بطاقة سردية منداحة  وقادرة على الحكي وجمع التفاصيل وتفكيك القيم والمفاهيم العامة كالحب والسخرية والحياة والموت والذاكرة إلخ في بوتقة واحدة.. ينطلق النص الأول من القطار، كقيمة رمزية تربط بين النقاط البعيدة ولكنه هنا قطار مختلف، في توقه للحرية وللخروج عن المرسوم سلفاً حيث اعتاد على ألا يربط بين الأحداث بل العكس، هو يشوشها بكل قوة كي تظهر الذكريات التي تظن أنها نجت باختبائها، إنه قادرٌ بضجيجه على فعل الفضيحة ورشقها في العيون: كان القطار معتاداً على ألا يربط القوسين ببعضهما مهما جرى، لهذا لم يُعرف عنه مطلقاً أنهُ سمح بحضن يتيم ف ليلة شاردة أو حتى قبلة في الخيال.. كان يحيا بهيئة منشار يقطع ذكريات رجل يكون في النهار شبحاً وفي المساء جيباً في بنطلونٍ مقطوع ص7 وتتصاعد الحكاية العجائبية لتكشف عن أزمة ربما كانت كلمة السِر فيها هو الشَبَه الماثل في وعي البطل بينه وبين الأب ومحاولة اللاوعي إفساد هذا الشَبَه والفِكاك منه: إذا كان المقصود بالحكي هنا رجلاً، فالحقيقة أن الشَبَه بينه وبين أبيه الضخم، صاحب الظل الذي يتسع كلما نظرت، عميق وملحوظ وراسخ في الحكاية بامتياز، إلا أن الأمر في السنوات الأخيرة لم يعد يسير على هذا المنوال ص7 ثم يظهر الجَدُّ المجنون وكأنه الأَوْلى بمحاولة الهرب: جدٌ لا ظِل له ولا أَثَر سوى خربشات بعض الشرايين في جمجمة الحفيد الشبح في النهار وفي المساء يكون هو الجيب السارح في هذا البنطلون المقطوع ص8 وعندها نتذكر القطار الذي رتق الحكاية بين البطل والأب والجد ثم أوصلنا لاكتشاف أن البطل هو الكولونيل العظيم الجدير الدائم بالسخرية منه والذي يليق به قطار البضاعة القبيح حيث يهرب من ضعفه وظلاله ولا يتمكن من محاصرة فضيحته التي صاغها شعبه الذي يخفي القطارات في الزروع ويلونها ويحولها لطاقة للحياة. في النص الثاني يخرج البطل من جريمة قتل غامضة حدثت لجميلة الحي إلى سيرته الشخصية، حيث يجعله القتل يقف أمام مرآته ويحاول مغادرة موقعه الدائم كجبان: الحق كذلك أنني جبُنت حتى عن إخراج رأسي، لم أستوعب بالأساس فكرة أنني قد أكون مَؤَّهلاً لهبوط أمر عظيم على روحي يشبهُ صلصلة الجرس العنيف وثِقلهُ ثِقل الوحي.. ربما يظن ولدي بتأثير فشلي معهُ في غالبية الأشياء التي تجمعنا معاً وغموضي في الابتعاد والاقتراب من روحه، بأنني من يليق به وصف القاتل، كما أن قلبي الخائن يؤكد باستمرار للمارة، من خلف ظَهري، بأنني هو ص29 إنه يبحث عن قوته الموءودة طول السنوات، بالإيهام بأنه القاتل ، رغم أنه أحب القتيلة وكان يحيا بقوة هذا الحب المكتوم: و هل لو اعترفت بأنني قتلتُها لما تمنَّعت علي في الكابوس الأخير، هل ستوسعون غرفة السجن قليلاً؟.. هذه الغرفةُ مسكونةٌ بأرواح من قُتلوا فيها ومن تعذبوا ومن ذهلوا عن أسمائهم.. هي مرتع لأفاع تخرج من الشقوق لتنظر وتدخل بلا توقف.. الأغرب أن الصباح لا يتسلل من النافذة إلا إذا عوى ذئب ومر عبر الحديد الصدئ.. لا أظنهم يربُّون ذئاباً وثعالب ودببةً خارج غرفتي.. هي أشياء مكلفة حقاً وأنا في النهاية لا أستحق ص30 تفكك الشعرية في هذا المحور قيم القوة والهيبة والعَظَمة والخوف وتحقنهم مرة بالسخرية وأخرى بالهتك وفضح المختبئ، وكذلك قيمة الزمن حيث تعيد تركيبه بعد أن تخل بالترتيب، وقيمة الأصل والفرع بعد أن تدمجهم في حكاية تروح وتجئ كلعبة في يد طفل، وكأنها تهدف لإيصال أن الشِعر يعيد قراءتنا للحياة بعد أن يفتت جمود وتكلس مقدساتها الاجتماعية ويفسد آليات عمل التاريخ المصنوع لصالح الرمز والمجاز والحكاية الساخرة أو السوداء التي تطمح دائماً لأن تعيد القراءة وتقبض على السِر.

(3) شعرية الإشراق:

وينتظم هذا المحور نَص واحد كبير بعنوان “صُرَّة مختومة تحت السماء” يمتد من ص32 وحتى ص43ويتكون من سبعة مقاطع متفاوتة الحجم.. تغادر الشعرية هنا عالم الظاهر والشهود إلى عالم العرفان والباطن المتسع، ليس فقط لتلمُّس الأنس مع الحبيب الأعظم حين تتلاشى البشرية وما سوى ظله المحيط : وأَوقفنِي في البئر/ وقال تجد كلما نسيت/ وكلما نَظَرتَنِي فيك/ أشوفك ص35 ولكن لإبراز توجهات جديدة في بعض المقاطع تمد الحبل إلى مناطق قد تقلب زوايا الرؤية أو تصيغ الفناء الصوفي من آبار أبعد: وأَوقفنِي في سَّرتِها/وقال كلما تركض/في الغابة/من تحت إبطي/أُخرج صورةَ الوحش ../فيطول نزيفكَ/وآبارَك يُثملها الغَرق ص33-44 حيث يمتد الرمز لبدء الخليقة فيتماهى البطل مع الكون بأكمله، مع تواريخه وأمثولاته وحقائقه       و توهماته. وأَوقَفنِي في الرقصة/ وقال أفوت على الأنغام/ فأنسى سِرِّي/وأسيب جحيماً/ في انفلات الخطو.. ص35 فكأنما هناك أغراضاً أخرى مخفية تتوسل بالطقوس المعتادة لتبزغ في وقتها المعلوم الذي هو خفيُّ لكنهُ محفورٌ في نور النور. وربما تكون هذه الرؤى المغايرة مقدمة لمواجهة الفرع بأصله والظل بشجرته:  ليست الطريق واسعةٌ/ فأضيقها للطائرين ../فسِبْني أشُمَّكَ من داخل أشباهي../في العبَاءة الطائرة/ أو في ارتعاش/خطابِك الأخير ص39 فيكون الخطاب الشعري أقرب للبوح الساخن والصريح حيث تطالب الذات بعد أن أرهقها الوجد وحيرها وأذابها، أن تتعامل مع حبيبةٍ حقيقيةٍ من لحم ودم بيقين أنها ستجد فيها نفخة الجمال السارية وهبةً من الروح الصافي. ثم لا ينتهي الأمر هنا بل تتسع المواجهة وتتمنى الذات أن تستعيد ذاتها التي فنيت توطئة لإدامتها في روحٍ قريبة هي المجلى الدافئ والقريب، من مجالي النور: وكلما يدوسني البريق، أركض هارباً/ وأَفُض برعشتي الصَّرةَ/ النازلةَ/ فأجد مسكاً ثقيلاً /أمسح به على ظِلِّكِ الغافي،/ فيُثْمر.. ص41. 

(4) شعرية التشظِّي:

ينتظم هذا المحور نَصَّان هما “حكمة ما بعد الغارة” و “يستمع لمذياع جَدِّهِ من شرفةٍ بعيدة” حيث يطلُّ الشعر ويظهر من تناثر الكلمات والجمل التي تصنع فضاءً سيريالياً كاملاً، يومئُ حيناً ويصرِّحُ حيناً ويضربُ بكل العنف في مرة ويشير بكل رقةٍ أو رهافةٍ في مرات.. الِشعر هنا يدور معنا ويلهث ويطير ليمسك بنجمات بعيدة و ربما يستخرج حرابه موافقاً على القتل وصانعاً للفخاخ والشِباك.. في النص الأول ينحت العنوان المسرح الذهني للبطل وربما للمتلقي، حيث هو هنا لحظة نفسية دقيقة وخاصة وموحية ومكتنزة بالتناقضات هي لحظة مرور الغارة على المحبوسين في منازلهم أو في الخنادق حيث تتنفس الروح الصعداء بعد أن تلاقت مع ضعفها وجهاً لوجه فتنكس رأسها خجلاً لكنها تمتلئ بالحكمة والمعرفة والخبرة فترمز للأعداء بالقطط وللأصدقاء بالكلاب: الكلاب تؤجُر عيونها للحزن/القطط تشتري الثورةَ من باعة الرصيف ص26 الطيبون هم من يخافون ويموتون لكنَّ أصحاب الأرواح المتعددة الذين يبدلون أشكالهم على الدوام لا ينتهون من حياتنا: الكلاب تموت في الحروب/القطط لا تموت أبداً ص26 وفي النص الثاني يتسع الأمر ويزداد تشظياً إلى مالا نهاية حيث يدخل البشر جميعاً في أتون اللعبة ويدلون بدلوهم : قالوا كلما نسيناهم قادوا ظلالنا ص45 فيتشتت البطل ويتوهم أنه يوقن أو يحب أو يكره أو يخاف أو يرى أو يتذكر أو يعمى إلخ جراء سهام الآخرين التي بدأت بالعبث في التاريخ الشخصي وتحويل الأب والأم من معادل موضوعي للأمان والطمأنينة إلى رمزيْن للرعب: قالوا كان أبوكَ يهيم هنا وهنا كلما مات قالوا أمكَ ساحرة قالوا الأب يتيهُ بسْوِطِه فاختبئوا ص 45 ويمتد اللعب بمشاعر البطل إلى المسرح المحيط: قالوا لا قديس في شارعنا القتيل قالوا بائع الأنتيكات يسرق أرواحنا ص46 ونعود إلى قطط النص السابق فتكون الوصمة من خلال هذه الكائنات الملتبسة: قالوا منكم القطط وأنتم منهم قالوا أشباح القطط أشباحكم ص46 لقد ازدادت عزلة الذات بالعلاقة مع الآخر وظل البشر الذين يحاصرونها بالمقولات والمواقف الملتبسة، هم أنبياء لغربة هذه الذات على الدوام رغم أن هؤلاء هم كل الميراث بعد الحرب التي أفنت الأرض بالسيول والبراكين، هؤلاء الذين يخبئهم البطل في علبته ورغم ذلك يسمعهم في كل وقت: قالوا سفينةٌ تصب ذكرياتها في علبتك قالوا العلبةُ صارت لغماً في الحروب ص45 فلا يتبقى له إذن إلا يقين الأرض التي صفَّت حسابها مع الجميع: قالوا لا حب بعد اليافطة القادمة ص45.

(5) شعرية البوح و مواجهة النوستالجيا:

ينتظم هذا المحور أكبر عدد من قصائد الديوان، حيث تنفجر الذات بعد أن حاصرتها النوستالجيا وتضرب في آفاق الذاكرة لتُخرج الزوايا القصية وتنير اللحظات المظلمة وتعيد الغائبين ولكن بعد أن تنصب مراياهم. والقصائد هي: “قِديِّس قريتنا” ،”جزيرة لقريتنا” ،”هنا السراب هنا رنين الغفران” ،”قِرْبةٌ من النور”، “كنتُ حقيقةً وكنتُ ذكرى” ،”بين أصابع أمي” ، “الحجُّ لمقابر العائلة”.. يعيد البطل قراءة سيرته وتاريخه الشخصي بقدر أكبر من القوة التي مردها فوات الزمن الذي كلما توغل وفات، ألقى بالمزيد من الرماد على التذكر بغرض الاجترار العاطفي الباهت: أشباهي يسقطونَ من النافذةِ/وظلالهم تعدو.. ص51 ونَفَخ في القدرة على مواجهة كل ما كان يستحق المواجهة وكشف المخبوء ومن ثَمَّ إعادته لموقعه المستحق: كان الأبُ أسداً محفوراً على الحائط و لما أنجَبَ نظرَ للوَلدِ وهَزَّ رأسَهُ و قالَ أنا جبان..ص5 حيث تظهر للمرة الأولى أزمة الأب التي ظلت من المحرَّمات وهي أزمة المسافة بين المثال والواقع، بين الصورة المفترضة والصورة الملموسة، وكأنما كُتب على الذات أن تنتظر كل هذه السنوات لتبوح بما كانت تدركه ولا تجرؤ على البوح به.. ثم تظهر الأم التي غابت مبكراً فلم تعد تمثل إلا مجموعة من الحكايات: بينما تحكي لي أمي/التَهَمتَنْا صفوفُ النملِ../في بطنِ النملْ، غادرَتْنا الحكايات..ص51 كلما مر الزمن من فوقنا ومن تحنا وعبر أرواحنا وظلالنا، نكبر وتصير الحكايات عجوزاً بما يهيئها للتلاشي.. ثم تظهر الحبيبة التي تخايل الذات طول الزمن بصور وهيئات مختلفة، والأصعب والأكثر قسوة أنها هي التي افتتحت تعرية الذات وفضحها وكشف كيف أنها مجرد مثال باهت من سلسالٍ ضعيف وجبان: ثم نظرتِ في عُمقي، نظرتِ طويلاً.. وسألتِ بصوتٍ ليسَ صوتِك: أين ألوانِكِ الأولى، أيتها الصورةُ التي تهتزُّ وتهتزُّ.. كشَفْتِني إذن أيتها الساحرةُ.. رأيتِ لحمي عارياً وملفوفاً بلحم أبي ص5 إن استراتيجيات المواجهة التي تُشمِّر لها الذات لا بد ستنكشف مع هذه الحبيبة التي تتأبى على التلاشي بل تُصر على كشف ضعف الذات ورغبتها المريضة في معاودة الاقتراب: أريدُ أن أحكي وأتكلمَ كثيراً، مع حبيبتي القديمةِ التي أَقْسَمَت أنها رأتني ظلاً عجوزاً ومثقوباً ساعة هربتُ من حضنها..ص44.. أودُّ أن أقولَ وأقول في أذنك يا حبيبتي حتى يُبَحَّ صوتي وتَحْمَرَّ أذناكِ فآكلهما وأنتِ تُرْخين السِكِّينَ ثم تبتسمين..ص44 سأذكرِّكِ الآن بما كان منك وما كان محتدماً داخلي وسأكشف كشفي لكِ: صدقيني يوم هَتَفْتُ كالمجنون في ساحةِ بيتِكُم وقلتُ إن ساعي البريد يموت وأن الصغار صاروا يعافون أرغفتي، كنتُ أريدكِ أن تقولي إنك أحببتني أكثر من حُبِّكِ للسقَّاء والكَوَّاء وبائع الأحلام..ص27 أنا اليوم و الآن بصرتُ بموقعكِ في خريطتي واخترت موقعي: حبيبتي التي هَرَبت لما فاجأها النورُ وهي تبكي في الحديقةِ صارت هدفاً للعفاريت، فَتَحوا لها قلبها فشافتني من تحت ملابسي حشرةً سوداء تهتزُّ بلا فائدة..ص48 حيث أنا القادر الوحيد على التسلل لداخلكِ بهيئة الحقد والكراهية والتي ربما هي صيغة نجاتي.. وبعد الأب والأم والحبيبة، تظهر الحرب باعتبارها هي الأصدق والأكثر حفراً في الروح، الحرب بتجلياتها الحية أثناء المعارك، والحرب كذلك بتموضعها كذكرى مؤسسة وتدخلاتها واشتباكاتها مع أحداث السيرة وصبغها بصبغتها الخاصة: كان أنفي مُوصَداً من جبروتِ الرمال، حتى أني تذكرتُ يوم قبضَ عليَّ البحرُ وخنقني..ص49 فيستدعى الغرق في رمال الحرب الغرق الحقيقي الذي مازال يعوق التنفس، والعكس كذلك، فقد تستدعي السيرة الحرب: كانت قدميَّ لا تستطيعان السَيْرَ في الضباب، حتى أني تذكرتُ يوم قطعوا ساقيَّ في المذبحة ص49 وكأن مقاومة هذه الحرب، بحمولاتها الرمزية، قد لا يصلح إلا بإثبات ورصد تداخلها مع الحياة التي تمر رغم كل شيء.. وهو الأمر الذي يستدعي الموت كأمر لا فكاك من مركزيته في الذاكرة لكنه يصير، مع كل هذا التاريخ الشخصي الطويل والمتداخل بلا خصوصية ولا رسوخ، فلا تكاد تُمَيِّز بين الموتى والأحياء: لماذا لا يصمت الموتى كي ننام../لماذا لا يعيدون ما سلبوه منا /كي نحبهم وننسى تنهيدةَ الارتياحِ /وقت سقوطهم..ص57-58.

(6) شعرية الزمن الحي أو الماضي المتمثل في صورة حاضر:

يمر الزمن فنتنهد مرتاحين بعدما حاصَرَنا بثقله، وحيناً نحزن على فواته ونحِنُّ إليه ويكون المعيار هو الحمولة الذي يمثلها هذا الزمن ودرجات اقترابها من السعادة أو التحقق أو الحزن أو الشقاء، لهذا فمن الحيل النفسية التي يلجأ إليها البشر ربما بشكل لا واعي- استدعاء لحظات توهج الذات من الذاكرة لتمثل مدداً لتحمل قسوة الحاضر.. وتخرج الشعرية في هذه الحالة من جماليات التماهي الكامل بين تفاصيل الزمنيْن والواقعيْن، والمفارقات التي تقتنص لحظاتٍ من الكشف الذي يتوهج عند الاحتكاك القوي.. ينتظم هذا المحور نَص واحد هو “بردية الفلاح العاشق” الذي يمتد من ص53 وحتى ص56 وفي هذه القصيدة نقابل بطلاً يتوق إلى الجمال الصافي البسيط، الصادق العميق في الآن ذاته، فيستدعي لوحة جميلة من التاريخ المصري العظيم تمثل تدلُّه فلاح مصري في عشق ربة الحسن والجمال: عمتِ مساءً أيتها الإلهةُ المقدسةُ../طابت أمطارُكِ و ورودُكِ /لبيوتنا و لنا../لبحيراتِنا المحروسةِ بنظراتِكِ الناعسة/وزادت في قلوبنا روائحُ بخورِك..ص53 واستمتاعه بدخولها لتلافيف حياته ومعيشته وقلبه وروحه ووعيه: أريجُ نوركِ الدائم غطَّى خطواتِنا /ونحن نتهادى مساءً في الحقول..ص53 بما يمثل توحيداً بين قيم الحب والجنس السامي: أما عشقنا الصارخُ لجمالِكِ/فمازال يمازحنا ويختبئ في لمعةِ ثمار القطن/وفي ثوب الكتان الخفيف، المحبوكِ على الجسد/كأنهُ تميمةُ حتحور التي تجوسُ في شوارعِ القلبِ/حتى يضيء.. ص54 مع العبادة المشرقة والفناء في الإله وقرب الأرباب من التفاصيل اللصيقة بالإنسان: وهكذا نجد ألسنتنا تنطلقُ وسط صلوتنا لكِ، بالضحكِ/والحكي عن شقاوة الأطفالِ/ و لحظات الحب الحميمةِ/مع طفلاتِك وراقصاتِك، شقيقاتِنا/الزوجات/ اللاتي يتنفسن عبيركِ في كلِ/رفة جسد..ص53-54 وكأن البطل هنا يصنع حلاً رمزياً فنياً وحياً لإجهاد روحه الكبير جراء تعقيد حياته وعلاقاته التي تفتقد للشفافية والصدق وكَمّ الزيف والتصنع الذي يحاصره لذا يسافر عبر الزمن ويقفز في ذلك الواقع العظيم الذي يمثل الجنة الحقيقية.. إن الحب العظيم السامي هو السبب المباشر في سواء الإنسان وصفاء روحه وصلاح أمره: أنا لم ألوث ماء النهر/ أنا لم أختلس القرابين/ أنا لم أسرق ممتلكات المعبد/أنا لم أفعل الشَرّ/أنا لم أتسبب في بكاء أحد/ أنا لم أغوي زوجة أحد/ لأني أحبك..ص56 إن الزمن الفرعوني بامتداداته الحضارية يمثل زمناً شعرياً حياً لا يفنى بجمالياته ورمزية عظمته السارية عبر أجسادنا المنهكة، ومن ثَمَّ بصلاحيته أن يكون ويظل هو المحفز الفني الدائم لإعادة اكتشاف الذات أو بالأحرى إنقاذها من الغرق في ثقل الواقع وانكساراته..

(7) شعرية الأسطورة وإعادة الخلق والتكوين:

يعود الشاعر لأصل الشِعر وأصل الخيال وأصل الكون، للسِحر، للعجائبي والخرافي والأسطوري، لرعوية الشاعر والتقاطه لحروف الكون الأولى وأهازيجه وأصواته و روائحه الحريفة، لحكاياته الغريبة عنا والمدهشة بالنسبة لنا الآن رغم أنها كانت هي الحياة الاعتيادية قبل آلاف آلاف السنين. ينتظم هذا المحور نَص بعنوان “أساطير وخرافات” يتكون من مقاطع متعددة ويمتد من ص60 وحتى ص68 تعتمد على الحكايات المسرودة ببساطة ورهافة الحكي ومكره كذلك، حيث يعيد رسم أنماطٍ فكرية ومناطق من الذاكرة صارت في وعينا الجمعي من الثوابت والمقدسات ولكن بعد أن يفككها لأصولها الأولى ثم يعيد تركيبها لتكشف عن وجه آخر ربما كان هو الحقيقة- لأن الحقيقة لها من الزوايا والوجوه ما يند عن الحصر- والمجد فقط لا يكون إلا للخيال الذي يتكفل بفتح النوافذ والآفاق وخلخلة الجذور التي ظنت في نفسها الخلود.. وتتوسل طاقة الحكاية بالسخرية والرمز والمفارقة وينجح التخييل في صنع استهلالات تضمن الدخول السريع في الحكاية: وحيداً تَمشَّى الملك في الصحراء فقادتهُ قدماهُ إلى مغارة الناسك.. جلس إلى جواره طويلاً ثم سأله لماذا تبتسم هكذا على الدوام فأخرج الناسك مرآةً من خلف ظهره ورفضها الملك وقال أعلم أنني سأجد فيها أسداً أو جِدْيَاً، كلكم تسحروننا أيها الغامضون.. ص61 وتقلب الحكاية البطولة من جانب إلى آخر حتى تسير اللعبة في اتجاهات غير معتادة: نقرَ الصغارُ البيضةَ وخرج الثعبان ومكثَ فترة حتى استطاع الرؤية واستكشاف المكان.. رائحة دماء الكرات الصفراء التي تتقافز حوله أسكرتهُ لكنه لما لاحظ الصَخَبَ تَرَدَّدَ ثم دخلَ وسطهم.. أخذوا يلعبون و يضحكون حتى نسوا أنهم ملائكة ونسيَ أنهُ شيطان.. ص62 وقد تختلف المشاعر من الخوف والفزع المعتاديْن إلى التعامل مع الدهشة كأنها هي الثابت: .. فجأة سمع صوتاً يأتي من خلفه التفت بسرعة فوجد صياداً يشبهه تماماً يجلس على مركبه.. لم يخَف ولم يفزع بل اعتدل وجلس قبالته.. قال لنفسه يبدو أن البحر يلهو معي فأرسل شبيهي ليؤنسني..ص65 ربما آن الأوان لنواجه غرور الانسان ونعود نتعامل مع الكائنات الأكثر عفوية، الحيوانات مثلاً ونفترض أنها هي التي انتصرت على الفناء وعلى الإنسان وأعادت كتابة الحكاية: كان الديناصور الكبير يتميز بالخبث والطمع والأنانية فبعد أن قال لكل ديناصور على حدة إن الآخر يتآمر عليه، جلسَ على تلةٍ بعيدةٍ ليشاهدهم يقتلون بعضهم ويهز رأسه ويضحك.. بعدها التفت إلى بقية الكائنات وابتلعها واحداً بعد الآخر ونام أخيراً وهو يحسُّ بالرضا..ص66 كذلك لم يعد يليق بالغولة أن تظل رمزاً لصنع الرعب وخلقه، إذ ربما تكون هناك فرضية أخرى تم طمسها عمداً وهي أنها كائن مسكين يخفي هشاشته في التخويف:.. فَتَحت عينيها ووضعت كفيها تحت رأسها وقالت عندهم حق.. من الغد سأخلق لنفسي ساقاً جديدة وأمحو نيران عيوني وأغير خِلقتي إلى الأجمل.. فعلت الغولة هذا وبدأت تزور الأطفال وتلهو معهم وتفرح ويفرحون ص67 وهكذا يمكن أن نكتشف أن الشَرَك، وهو من ممثلي شرور الانسان- ربما يصاب في يوم من الأيام بضعف الذاكرة: قال الشَرَك القديم في الغابة، أصبحتُ أتوه هذه الأيام وأصبَحَت حبالي ضعيفة وأخشابي مقوسة.. ص68 وربما يصير هو  ذاته الانسان، أو البطل الذي يكافح الفناء طول صفحات هذا الديوان الناجح في صنع الدهشة، والطَموح فنياً وجمالياً: وهكذا تمضي بي أوقاتي.. الذكريات في النهار والحزن القاسي في الليل..ص68.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مترجم مصري، المقال نقلاً عن مجلة ميريت الثقافية

 

مقالات من نفس القسم