فاطمة الشرنوبي
لا أدري كم مرّ من الوقت حتى استقرّ أربعتنا على باب غرفة العناية المركزة.
قررتُ أن أؤجل العتاب حتى يفيق، سأصرخ وأفجر كل براكين الثأر من قسوة العالم وأمي واختفائه المفاجئ في وجهه دفعة واحدة، سألوّح في وجهه بسبّابتي وسأصيح “لقد عرفتُ السرّ!” سيلطمني على وجهي ربما أو سيجذبني من ياقة ثوبي في عنف ثم يضمّني إلى صدره، سأصرخ في وجهه أو سأمطره بشلالات الشجن الذي أثقل صدري؛ كانت نظرة الممرضة المشرفة في العناية المركزة تختلف عن نظرتها يوم أمس وأول أمس، غريبة.. لم يستعجلوننا للخروج!
كان الوقت يكفي لقراءة سور طويلة من القرآن ولكني اكتفيت بقراءة الفاتحة وآية الكرسي، وقضيت بقية الوقت أتأمل وجهه النائم، لم يكن هادئًا مثل اليومين الفائتين، كأن شيئا يجول خلف جفنيه، يؤرق نومه ويأجّج أحلامه، صوت مكتوم يصارع ليجد طريقًا لآذاننا، حشرجات تتبادل الخروج مع أنفاسه المتقطّعة، وكأن روحه تدقّ الباب استئذانًا من أحد ليطلق العنان لها، لا أدري.
انحنيت عند رأسه المدفونة في وسادة بلون سماء بلا غيوم حتى صرت في وضع ركوع وهممت بهمسة “أحبك”، لجمت قوة لساني، شَكَمَته بقوة تليق بكلمة يودّ لو يبوح بها القلب لأب يُنازع، لم أكن لأكذب عليه؛ نعم، لازالت الكدمة التي نحتها في فخذي قبل وقتذاك بعشرين عاما زرقاء، داكنة ولازالت حتى اللحظة حيّة كجمرة مشتعلة، هي الإرث الذي تركه لي منذ الصغر، تحفر ذكراه في جسدي وتجعل من روحي هشة أحيانا، غليظة أحيانا أخرى.
أثناء تلك الزيارة، تأملت قسمات وجهه، حفرت تفاصيلها في ذاكرتي، نحتّها في جدار عيناي نحتا، هذا الرجل الممدد على السرير أمامي يشبه ذلك الرجل الذي غادر فجأة دون إنذار ودون كلمة وداع منذ سبعة عشر عاما مضت، ذلك الرجل الذي يزعم أنه أبي ويلتصق اسمه بإسمي “رقية إسماعيل المندراوي” فلا أقدر على تجاوز اسمه حين أدوّنه في أية أوراق رسمية فيصير “رقية المندراوي” مثلا، تركني وأنا في الثانية عشر ولم يلتفت إلى الوراء لحظة قبل أن تخطو قدميه عتبة الباب ويقرر الرحيل، غير أن التجاعيد التي وجدَت طريقها على وجنتيه وحول عينيه وعلى جبهته إلى جانب شعره الأبيض الذي كسا معظم رأسه وذقنه جعلت منه مُسنّا إلى الحد الذي دفعني لأتساءل إن كان هذا هو أبي حقا؟
أغمضت عيناي، أتدرّب على فراقه من جديد ولكن هذه المرة لن أدعه يغادر إلا ووجهه محفورًا في ذاكرتي، مطبوعًا على جدار عيني، بوجه ملوّن وإن كان باهتا، مجسّد وإن كان ضعيفا أكله المرض، لست متأكدة إن كنتُ على استعداد لفراقه الثاني، لثمت كفه اليسرى المقيّدة في طرف السرير ثم حملت كفه اليمنى بين كفّاي … هاهويمدّ ذراعه نحوي، يلتقط كفي الصغيرة ويضعها بين كفيه الكبيرتين، يصطحبني إلى متجر الملابس لشراء فستان وحذاء جديدين، هو مغمض العينين مذ وصل بعد غياب، لا أزيز باب ولا حتى صراخ يمكن أن يؤرق نومه …وضعتُ يمناه على قلبي الواجف، في محاولة يائسة لأن أبثّ فيه نُتْفاتا من روحي التي لازالت تتجول بين جدران جسدي.
شممت رائحته، رائحتك هذه يا أبي هي هي رائحتك التي ملأتَ بها أنفي وأنا في الثامنة حينما دفنتَ رأسي في صدرك وهمستَ في أذني “سأبتاع لك فستانا جديدا يوم غد!” غير أن رائحتك هذه المرة ممتزجة برائحة عنبر المرضى، الأدوية، العقاقير، رائحة المستشفيات المعهودة! لثمتُ جبينه وعينيه المغمضتين، وأخبرته في سرّي: عالقة أنا بين جدران غرفة بهت كل مافيها، التابلوه وسطح المكتب والسجادة حتى بهتت روحي معها!
كان الطبيب النوبتجي في العناية المركزة يختلس النظر نحونا في شفقة أو ربما دفعتُه دون قصد لتذكر أبيه الذي لربما كان يوما ما ممدّدا على سرير كهذا، لقد سمحوا لنا على غير العادة بالبقاء في الغرفة وقتا مديدا عكس اليومين الفائتين حيث كانت التعليمات واضحة وصارمة، “عشر دقائق فقط هي مدة الزيارة تتكرر مرتين كل أربع وعشرين ساعة.” خانتني دموعي وإرادتي لما انهمرتُ في البكاء بغتة، سارعت بإغماض عيناي لئلا تؤرق دموعي نومه الهادئ.
و… وسقطت كفه من بين يديّ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الرواية الحائزة على جائزة خيري شلبي للعمل الأول ـ صادرة عن دار الشروق 2025