رواية “شرائط مؤدبة جدًا”:   بين الذاكرة ومنفى الوجود

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أفين حمو

كان على برايز أن يكون سراً. ليس سرًا بالمعنى الذي ينكشف يومًا ما، بل سراً مدفوناً في هشيم الذاكرة، كأن أحدًا لم يره، لم يسمع صوته، لم يلمس حضوره المتلاشي بين شرائط قديمة كان يعتقد أنها تخلّد مجده.

 “تنسى كأنك لم تكن” هكذا  يفتتح ماجد سنارة روايته بجملة محمود درويش  فهو لا يضعها مجرد اقتباس عابر، بل يحمّلها لعنة النسيان التي تلاحق بطل روايته

برايز الذي ينجرف ببطء نحو الظل، نحو الزوال التام، حتى يصير مجرد حكاية بلا أثر. لا أحد يتذكره، لا أحد يبحث عنه، وكأنه كان مجرد طيف عبر في حواري المدينة، قبل أن يتبخر مع ضجيج الأزمنة الجديدة.

لكن “شرائط مؤدبة” ليست فقط عن برايز، بل عن عالم كامل تخلّقت تفاصيله في القرية وبين  الأزقة الشعبية، بين محلات الفيديو المهجورة، وفي تلافيف مجتمع يبتلع أبناءه ثم ينكرهم.

 رواية لا تسرد فقط حكاية سقوط فرد، بل سقوط زمن بأكمله.

برايز، أو خميس باسمه الحقيقي، لم يكن مجرد بائع شرائط فيديو، بل كان “رئيس جمهورية الثقافة”، كما أحب أن يسمي نفسه. آمن أن من حق كل مواطن أن يتثقف، حتى لو كانت ثقافته تمر عبر أشرطة الفيديو الممنوعة التي كان يوزعها بسخاء، لا حبًا في المال، بل إيمانًا بأن دوره لا يقل أهمية عن أيّ زعيم سياسي أو مصلح اجتماعي. “الحرمان وحش!”، كان يردد دائمًا، وكأنه يبرر لنفسه مهمته التي لم يعترف بها أحد.

لكن كما تسقط الممالك العظمى، سقطت إمبراطوريته بهدوء حين زحف الدش والهواتف المحمولة، وقضيا على سحر شرائط الفيديو. لم يكن يصدّق أن الناس يمكن أن تتخلى عنه بهذه السرعة، لم يكن يرى أن زمنه قد انتهى، حتى عندما حذره أشرف، ذاك الذي كان زبونه الفقير الدائم، قائلاً له: “بع كل شيء قبل أن تصبح بلا شيء!”. لكنه رفض، وراهن على أوهامه حتى انكسر.

في عالم برايز، هناك وجهان لكل شيء: الخيانة والوفاء، الاستغلال والتضحية، التسلّق والسقوط. وكان صبحي وأشرف هما التجسيد الحيّ لهذا التناقض.

صبحي، الرجل البسيط، كان الوحيد الذي لم يترك برايز، حتى في أحلك لحظاته. كان ذاكرته الوحيدة التي لم تتآكل، الشخص الذي حاول أن ينتشله من هاويته حين اقترح عليه العودة عبر الإنترنت، عبر مجموعة على “فيسبوك” تحمل اسم “عودة الريس برايز”.

أما أشرف، الذي كان يمدّ يده ذات يوم متوسلًا شريطًا بالمجان، فقد أصبح من أسياد السوق الجديد. لم يعد يكتفي بمشاهدة الأشرطة، بل صار هو من يديرها، لكنه لم يعد يبيع الأفلام، بل يبيع البشر. جمع النساء من الحواري الشعبية، حيث الجوع أقوى من الفضيلة، وقدّمهن لمن يملك المال والسلطة، حتى صار اسمه لامعًا في أجهزة الدولة. أشرف لم يكن وفياً إلا لمصلحته، وكان يعرف كيف يتحول، كيف يتخلى، كيف يستغل الفرص حتى آخر قطرة.

في رواية شرائط مؤدبة لم يقدّم الكاتب ماجد سنارة بيئة ثابتة بل كانت الأماكن تتغير كما تتغير مصائر الشخصيات. من القرية في طفولته مع صديقه درويش الذي  استطاع ان يجعله يحب القراءة والثقافة الى الحارة الشعبية حيث كان برايز “الريس” الذي تهابه الأزقة، إلى المكتب حيث صار مجرد ساعٍ يحمل الماء وينظف الحمامات. ثم إلى الشوارع، حين صار متسولًا ببقايا يد مقطوعة.

المدينة، التي كانت يومًا تعج بحركة الشوارع الخلفية والتجارة السرية والمقاهي التي تهمس فيها الصفقات، أصبحت بلا ذاكرة. الأشرطة التي كانت جوهر عصر كامل، تحولت إلى رماد. والحكايات التي دارت بين الجدران الرطبة للحارات، ابتلعها الزمن كأنها لم تكن.

اللغة في الرواية تتنقل بين مستويات متعددة، كما لو أن الكاتب يرصد انحدار بطل روايته من قمة المجد الزائف إلى القاع.

 هناك العبارات الشعبية التي تصنع أصالة الشخصيات، مثل جملة والده التي ترددت في رأسه طوال حياته: “الست مكانها البيت، الدم مسيره يجف، لكن الزوج لو راح يا ساتر، تبقى مثل البيت الوقف.” وهي ليست مجرد كلمات عابرة، بل صدى لمجتمع كامل يؤمن أن المرأة لا تملك مصيرها، وأن العنف يمكن أن يُغفر، لكن الخروج عن المسار لا يغتفر.

وفي لحظات أخرى، تتخذ اللغة بعدًا فلسفيًا قاتمًا، كما في لحظة القبض عليه، حين صار مجرد كائن لا يملك حتى جسده، أو حين وقف أمام أشرف متوسلًا، ليُدرك أن الفقراء لا يشفقون على من يسقط، بل يسخرون منه لأنه لم يكن أذكى.

دارين لم تكن مجرد قصة حب، بل كانت الوجه الأكثر عنفًا للخذلان. أحبها برايز كما يحب الغريق طوق النجاة، لكنها لم تكن سوى عاصفة جديدة في حياته. أحبته، لكنها لم تحترمه، وحين صار مجرد ظل لما كان عليه، صارحته برغبتها في علاقة ثلاثية، كأنها ترسم حدود هزيمته الأخيرة. طردها، لكنه لم يطرد الإهانة التي علقت بروحه.

لكنها، في النهاية، كانت آخر من رآه. في مشهد يكثّف سخريّة المصير، التقت به بعدما تزوجت من رجل أعمال وأنجبت ابنتين. لم تكن تريده، لكنها كانت تريد أشرطته، فالزمن عاد ليقدّر ما كان قد رفضه من قبل. أعطته المال، لكنه حين عاد ليبحث عن بقاياه، وجدها قد احترقت.

ياخذنا الكاتب في نهاية الرواية، لنكتشف انه  لم يتبقَ من برايز سوى أوراق مبعثرة كتبها في لحظات متفرقة، حملها إلى ناشر، طلب منه أن يقرأها، وإن أعجبته، ينشرها. قرأها الناشر، انبهر بها، بحث عن صاحبها، لكنه لم يجد شيئًا. لا أثر، لا عنوان، لا شخص يسأل عنه. كأنه لم يكن.

ماجد سنارة لم يكتب مجرد رواية عن رجل سقط، بل كتب عن ذاكرة مدينة، عن عصر بأكمله التهمه التحوّل السريع، عن الذين كانوا ملوك الأزقة قبل أن تبتلعهم الأزمنة الجديدة بلا رحمة. كتب عن الذين يسقطون دون أن يلحظهم أحد، وعن الذين نحاول أن نتذكرهم، لكن الزمن يأبى إلا أن يمحوهم!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شاعرة وناقدة سورية  الرواية صدرت مؤخرًا عن دار المحرر- معرض القاهرة للكتاب 2025

مقالات من نفس القسم

art
قص الأثر
موقع الكتابة

نسبية