“شــامـة”

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

تسنيم نصر 

رأيتها بينما أتجول في السوق،

لاتزال تشبه وجهها القديم، نظرةٌ جامدة وملامحٌ باردة، ترتدي جلبابًا منقوشًا وتلف قطعة قماش حول خصرها كأنها حزام والوشم تحت فمها يمنحها طلةً صارمة، تمشي سعيًا إلى الرزق، تتسوقُ لفلانة أو تحملُ الطلبات لفلانة أو تدعوها فلانةٌ لتنظف لها البيت، تبدو بين الناسِ كأنّها منهم، ونصفَ فاقدةٍ للعقل لمن يمعنُ النظر..

يأتى أهلُها من القدسِ إلى “شارع العرب” حيث أهل فلسطين القادمون يلتمسون حياةً أقل خوفًا وتعبًا، تضعُها أمُها في هذا البيت المجاورِ لبيت عائلتنا، تكبر “شامة” وتصاحبُ أطفال الحي مصريين وعرب، يراقبها أهلها في حيرة، فار جسدها وبانت أنوثتها بينما توقف عقلها عند الطفولة، فيزداد الأهل حيرةً وحزنًا، تجلس الأم على عتبة الدار عيناها ورقة توت تحمي سوءة الفتاة من أيدي الطامعين، تلاحقها بالدعاء والبسملة، يكبر الأبناء ليتخفف الأهل من عبئهم وتنفتح أمامهم أبواب الحياة.

تكبر شامة ويكبر الخوف بأهلها، أغلقوا النوافذ والأبواب وضيقوا حولها الشوارع، “جواز البنت سُترة” هكذا تقولُ الأعراف، يترقب أبوها ولا أحد يطرق الباب، تدور الأعوام ويرحل الوالدان ويترك الأب وصية لابنه :

” شامة شامة لا يغرب وجهك عنها ولا تمسسها يد ولا يهينها أحد”..

تنتقل شامة لحكم “حارس” وتضيق بقسوته، يغضب كلما التفتت ويضرب كلما غابت عن عينه، أراها تبكي في مدخل البيت والبوابة مغلقة بالجنزير الحديد، يبرر حارس فعله بالخوف فهي شابة طفلة ضاحكة حلوة والعالم متاهة والرجال ذئاب والوصية أمانة، حتى وقع الخوف وغابت شامة ليوم كامل، اسودّ وجه حارس وتقلب بين هلع المصير والندم على القسوة، ووجوه الجيران في لومٍ ووجوم،

نادى الإمام في المسجد عن اختفائها، ونادى الناظر في المدرسة، والباعة في متاجرِ الخضار والفاكهة، الكل يبحث عن شامة،

حتى عادت ذات مساء بوجهٍ شاحب وهزالٍ بادٍ وملابس ممزقة وشعرها ملبدٌ بالطين، يومٌ واحد كان كافيًا ليفصل بين زمنين، فاحتالت من طفلة خفيفة تطوف البيوت تضاحك الكبار وتدلل الأطفال، لفتاةٍ مكلومة عجز عقلها عن استيعاب المصاب وعجز لسانها عن الكلام، لم تملك غير البكاء والصراخ،

شامة التي بالكاد تنطق اسمها وبعض كلمات بسيطة ثار فيها حارس يسأل عمّا حدث، ودّ لو كانت ظنونه كذب، نطقت بكلمات قليلة:

راجل / غيط / ضربني / نام،

سيطول مكوثها في البيت لاحقًا؛ 

بالكادِ ألمحُها من خلف البوابة تتأمل المارين بوجهٍ مرتاب حزين، بطنها يكبر وصمتُها يزيد والجيرانُ يتهامسون،

وبعد أشهرٍ تأتي الداية وصرخات شامة المكتومة تنبأ بولادةٍ عسِرة، قالت الداية أن وجه حارس ينذر ولا يبشّر وعينيهِ من زجاج وأنفاسُه لهب،

لبضعِ أيامٍ سمع بكاء الطفلة، قلنا لعلها تحنن قلب حارس على أخته،

بعد شهر من الولادة سوف تخرجُ شامة ذات فجر تستغيث وتلطمُ وجهها وصدرُها بالحليب مُبتل، والوجوهُ تتطلعُ إلى حارس في ذهول، حتى قال:

“لا مكان لبنت الحرام في بيتي”..

الرجال يحوقلون والنسوةُ يعزون وأنا بين الأطفال أفكرُ كيف حال المولودة الآن وكيف ستعيش الأم؟!

راحت الطفلة وراحت معها طفولة “شامة” وعاد وجهُ حارس ساكنًا ورأسُه مرفوعًا، وانتقلنا لبيتٍ آخر في قريةٍ مجاورة وذكرى الحكاية لا تفارقني،

حتى رأيتها في السوق تسعى على باب الله ، لا خوفَ عليها اليوم بعدما تجاوزت الخمسين..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شاعرة وقاصة مصرية 

مقالات من نفس القسم

تراب الحكايات
موقع الكتابة

خلخال