د.محمد السيد إسماعيل.. راهب الشعر والنقد

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام
أفنى عمره في الجهد الثقافي وكان زاهدًا مترفعًا، تنبأ بوفاته بقصيدة على صفحته ومات مبتسمًا أحباؤه وأصدقاؤه ينعونه إنسانًا وعالمًا وشاعرًا كبيرًا

سمية عبد المنعم 

عاش بهدوء العارفين ورحل بصمت الراضين

بين شوارع طالما أنهكتها قدماه اكتشافا، سرت..

وفوق أريكةٍ كان عليها يتكيء شاردا في بيت شعرٍ يراوده، جلستُ.

ترددت وأنا أخطو خطواتي الأولى نحو بيته، لا أدري لم انتابني يقين بأنه سيخرج عليّ مرحبا، وهو الذي كثيرا ما فعلها حين كان يجمعنا لقاء أدبي أو مناقشة عمل ما، بحثت عنه فلم أجده.. لكنني رأيته.. في عينيها رأيته، بين دموع جاهدتْ كيلا تذرفها، لكنها خانت مقاومتها، رأيته، بين ارتعاشة صوتها وهي تقص على سمعي لحظاته الأخيرة، رأيته.

هنا، بين ذراعيها، شعرت وأنا أضم حزنها بأحضاني، أنه أبدا لم يغب عنها، ولن يغيب.

دفء حديث السيدة، أم كريم، زوجة الناقد الكبير الدكتور محمد السيد إسماعيل، والذي اختطفه الموت من بيننا الثلاثاء الماضي، بل صدق حديثها وحده، كان مؤنسي ودافعي لتجرع ويلات فراقه المرير، والتخفيف من وقع لحظات العزاء وذهولها.

بصوت خفيض ودموع تختنق بين مقلتيها، قالت:

كانت آخر كلماته “الحمدلله”، ثم أسلم الروح ورأسه فوق كتفي، نظرت إليه فكان وجهه مبتسما وضاء، كأن فرحة كبيرة ترتسم أمام عينيه.

مسحت دمعة فاجأت وجنتها، واستكملت:

حزن كبير يعم البلد، كان الجميع يحبونه، جنازته كانت شاهدا على عمق هذا الحب، وعزاؤه أكبر دليل على منزلته في قلوبهم، ولم لا وهو الذي كان يحب الجميع ببراءة، ويمنح الحب كأنه كل ثروته.

وأحب الشعر والنقد، أخلص لهما كأنهما ولداه، منحهما جل وقته ومجهوده وأمله، سألته يوما: ما الذي يمنحك الأدب مقابلا لكل هذا المجهود والاهتمام؟ فكان يقول بتلقائية محب: الكثير جدا، إنه يمنحني المتعة والقدرة على الحياة وتحمل العالم، إنه الشغف الذي يدفعني للمواصلة، شغف لا ينتهي أبدا.

وعن آخر آماله، قالت إنه تمنى لو فرح بزواج ابنه أمير.

لفت ناظري تهدج صوتها وأنا أحكي لزوجته عن آخر ديوان له، شرفت بأنني نشرته في دار النشر الخاصة بي،

” استشراف إقامة ماضية”، فتحولت إليها بكليتي، وأنا ألمح دموعا تصارع عينيها، اللتين تسألاني دون صوت أن أواصل حكايتي عنه، وجدتني أنظر إلى شقيقته الصغرى وأستكمل ذكرياتي معه، أخرجت صورنا معا، والتي جمعتنا إحداها في ندوة والأخرى بمعرض الكتاب الأخير، وكانت المرة الأخيرة التي أراه فيها، لتنظر إليها بشوق المحب فلا تستطيع السيطرة على دموعها، وتغادرني رغما عنها، فتلتقط مني زوجته الهاتف وتقبل صورته باكية.

كنت أنتظره لمناقشة ديوان له بعد خمسة أيام فقط، رحت أرتب أنا وأعضاء شعبة النقد باتحاد الكتاب لتفاصيل تلك الندوة، خمسة أيام فقط يا دكتور محمد، فلماذا لم تنتظر وقد كنت تترقب تلك الندوة وكأنها أهم ندواتك؟ لماذا لم تنتظر؟

وحده القدر الذي جمعني ب”آخر” ما يخصك؛ أن يطبع آخر ديوان لك على يدي، وأن أشهد ترتيبات آخر مناقشة لك لم يمهلنا القدر لنتمها.. ربما أراد هذا القدر أن يجعلني أحمل “آخر” مسببات فرحك، فأشعر ببعض امتنان له أن خصني بتلك النعمة.

نبيلا كريما، مترفعا عما يسعى خلفه أقرانه، محبا للأدب والنقد، مخلصا لهما.. هكذا كان وبهكذا اشتهر، بتواضع العظماء كان يمشي بيننا، وبعطاء من لديه الكثير كان يسعى لإبراز العمل الجيد، ويتحدث عنه، لا ينتظر أن يُطلب منه، بل كان هو من يفعل بمجرد أن يعجبه نص مبدع؛ لذا أحبه الشباب والأصدقاء، واعتادوا فرحته واحتفاءه الخاص بما يستحق من أعمالهم.

أذكر أنه في ذروة صدور مجموعتي القصصية الأخيرة “سرير فارغ”، أن قابلته في إحدى الندوات فطلب مني قراءتها، وعندما نسيت إهداءه نسخة عاتبني قائلا إن “كتابتي” تعجبه، ويرى في نفسه رغبة أن يقرأ المجموعة ليكتب عنها بل ويناقشها في إحدى الندوات، وبالفعل حظيت بتقديمه لندوة مناقشتها بمنتدى الشعر المصري.

ذات ندوة نقدية لم يسع الفرح قلبي، حين جلست إلى جواره كناقدة أتلمس خطواتي الأولى فوق بلاط النقد، ورحت أطرح رؤيتي النقدية في أحد الدواوين، فأعجبه طرحي كثيرا وأثنى عليه، هنا فقط شعرت بحصولي على بطاقة اعتمادي ناقدة.

هكذا كان سمت محمد السيد إسماعيل.. معطاء حد السماء.

رحت أقرأ كلمات الأصدقاء والمقربين المصدومة بخبر رحيله جسدا، وهي تؤكد على نبله وعطائه هذا، فها هو الكاتب أسامة حداد يقول:

“كان د. محمد السيد إسماعيل متواضعا ونبيلا يرى في تلبية الدعوة للمشاركة في مناقشة كتاب واجبًا لا ينبغي التخلي عنه ويتابع أعمال الجميع بمحبة وبساطة واجتهاد العالم دون السعي للتربح من علاقاته القوية داخل الوسط الثقافي، هو من كان القاسم المشترك في الكثير من الفاعليات الثقافية فلم ينل تكريما يستحقه أو جائزة ذهبت إلى آخرين، هو من اصطفى المهمشين ليكون واحدا منهم منذ ديوانه الأول “كائنات في انتظار البعث”، هو حالة صوفية يشبه نصوصه وفلاح مصري لا يعرف سوى المحبة الخالصة واليد البيضاء الممتدة للجميع”.

وها هو الدكتور عمار علي حسن، يؤكد ذلك بقوله:

” ااااااااه يا محمد، أين نجد من هو في عطائك ومحبتك للجميع؟ كان يُشعرك أنه منذور للقراءة والكتابة، لكنها لا تتكرر وحدها، إنما مثلها، وربما ما هو أجل منها، هي تلك الدهشة الطفولية التي لا تغادر عينيه ومحيا ريفي جاء يسعى في زحام مدينة متوحشة، وكان يأبى إلا أن يترك بصمته في الثقافة المصرية المعاصرة، كواحد من المخلصين لها، والعاملين لأجلها، والصبورين على جهدها المفرط، وعطائها القليل.

فيما يصفه الدكتور محمد عبدالباسط عيد، قائلا:

مات محمد إسماعيل عن ثلاثة وستين عاما، مات بقلب أخضر، يشبه قلوب الأطفال، ولا أعلم كيف رعى هذا القلب كل هذه السنين، وعبر به من تخوم الفقر وقسوة التنمر وخيبة الأمل.. رجل لا يستند على أي شيء تقريبا، كل ما لديه شوية أفكار عن العدالة الاجتماعية ومحبة للشعر والفن عموما. لا يهتم إسماعيل بما يهتم به كثير من الناس: لا شقة، ولا عربية، ولا ملابس ولا أي شيء، كان زاهدا أصيلا يرضى بأقل الأشياء كأنه ولد بهذه الصفة، ولعل هذا ما جعل نقادا ينتبهون إلى نزعته الصوفية المترفعة.. وكنت أعابثه قائلا: يصبح اليساري صوفيا رغم أنفه (يا مولانا).

أعطى إسماعيل الثقافة عمره كله، ولم يأخذ منها أي شيء، ولم يطالب بأي شيء، لا ندوة، ولا مؤتمر، ولا لجنة، ولا حتى جائزة.. أشهد الله أن هذا الرجل ناضل في هذه التفاصيل نضالا لا مثيل له، وأنه قد أقبل على ربه بقلب أخضر كقلوب الأطفال: بلا غل، ولا حسد، ولا لوم ولا عتاب.. جاء سمحا، وغادر سمحا”.

بينما يقول د.محمد عليم، صديق عمره:

“صديق الدراسة والرحلة الدكتور محمد السيد إسماعيل قال كلماته ثم مضى بهدوء يشبه روحه.

محمد لم يشبه أحدا إلا نفسه، ولم يقل كلمة من خارج قلبه، ولم يتاجر بشكواه، وتحمل آلامه في شموخ حسدناه عليه، عاش ومات بفلسفة فلاح مصري جسور، وغادرنا مبتسما راضيا رغم ركام الرفض.. وداعا أيها الشامخ الكبير”.

وتلك كلمات د.هدى عطية، فهي تقول:

وداعًا، صاحب “اليد البيضاء في آخر الوقت”.

لم نكن نظن أن “آخر الوقت” سيأتي بهذه السرعة، ولا أن اليد البيضاء ستلوّح لنا من ضفة الغياب قبل أن نتفيّأ ظلال ديوانك، ونسمع نبض كلماتك على منبر اتحاد الكتّاب، حيث اتفقنا، وتواعدنا، وابتسمنا، كأننا نمتلك الوقت.. اليوم، رحل الشاعر، وترك القصيدة وحدها تواجه العالم.

اليوم، مات الدكتور محمد السيد إسماعيل، ومات معه شيء من الدفء، من الأمل، من الشعر الذي كان يعرف طريقه إلى القلب بلا استئذان.

يا صديقي، لم تكن مجرد شاعر ولا مجرد ناقد، كنت نسيجًا من الحنان والمعرفة، وكانت كلماتك تسعف الروح في زمن القسوة، وتحرس المعنى من الضياع”.

فيما اختار د.مسعود شومان، صديقه الأقرب، من الكلمات أقلها، وكأن حزنه تعجز عنه الكلمات:

“إلى جنة الخلد يا حبيبي، د. محمد السيد إسماعيل

سافر في رحمة الله، رحمات الله ورضوانه، سأبكيك كثيرا يا أجمل الأصدقاء وأطيبهم”.

رفعت عيني عن نعي الأصدقاء، إلى منشور أخير له، كان يتمنى للأديب صنع الله إبراهيم تمام الشفاء، ابتسمت بمرارة من أفاعيل القدر، ورغما عني تذكرت تلك الكلمات من قصيدة له، كانت آخر ما كتب من شعر على صفحته بالفيسبوك، وكأنه ولي، تنبأ برحيله قبل أن يحين الموعد بأحد عشر يوما:

“باب واسع للعبور”

في الصباح أبحث عن البيت/ وفي الليل أنام على كومة من الأجسام والحجارة/ آه يا أمي/ لقد كان هنا/ منذ عشرين شهرا/ أرسم فوق جدرانه/ عيونا كثيرة/ وأيادي بيضاء / لا بيت الآن/ لكن تأكدي/أن المكان كله أصبح بابا واسعا للعبور”.

نعم، اخترت أوسع الأبواب للعبور من دنيانا، أبواب قلوبنا المشرعة على حبك وسيرتك العطرة، عشت بيننا بهدوء العارفين، وعبرت كطيف لم يتحمل عواصف القبح والزيف، فرحلت بصمت الأولياء وابتسام الراضين..

فالسلام عليك.. كل السلام.

*بروفايل:

د. محمد السيد إسماعيل، شاعر وناقد ولد عام 1962 بقرية طحانوب بمحافظة القليوبية. تخرج في كلية دار العلوم بجامعة القاهرة عام 1985، وحصل منها على الماجستير والدكتوراه في الدراسات الأدبية.

بدأ كتابة الشعر عام 1977، وعمل مدرسا للغة العربية، ونشرت قصائده ودراساته النقدية في مجلات مصرية وعربية، وشارك في مهرجانات شعرية متعددة.

صدر له عدد من الدواوين منها: كائنان في انتظار البعث، الكلام الذي يقترب، استشراف إقامة ماضية، تدريبات يومية، قيامة الماء، اليد البيضاء في آخر الوقت، أكثر من متاهة لكائن وحيد.

ومن أعماله المسرحية: السفينة، زيارة ابن حزم الأخيرة، وجوه التوحيدي، رقصة الحياة.

وأصدر كتبًا نقدية منها: رؤية التشكيل، الحداثة الشعرية في مصر، غواية السرد، نقد الفكر السلفي، انفتاح النص الشعري، دلالات المكان السردي.

نال العديد من الجوائز، منها جائزة الشارقة للإبداع العربي، وجائزة مجمع اللغة العربية في النقد، إلى جانب جوائز في النقد والشعر من هيئة قصور الثقافة وصندوق التنمية الثقافية.

كُرم كأفضل ناقد أدبي في مؤتمر أدباء مصر، واختير شاعرا في معجم البابطين، وتولى أمانة مؤتمر القاهرة الكبرى وشمال الصعيد الثقافي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نقلاً عن جريدة الوفد 

مقالات من نفس القسم