آمال صبحي
تأتي رواية “صلاة القلق” لسمير ندا كشهادة مُدَوَّنة على حافة الهاوية، حيث يتساوى معنى الوجود بعبثيته، وتتلاشى الحدود بين الحقيقة والوهم في مهب ريح التاريخ العقيم. فوزها بالبوكر 2025 ليس احتفاءً بجمالية السرد بقدر ما هو اعتراف بصدى هذا الصراخ المكتوم القادم من أعماق الروح المهزومة.
إنها رواية أولئك الذين ينتظرون العدم، متشبثين بفتات الذاكرة المتآكلة كآخر معاقل للوجود.
ينطلق بنا ندا من “النجع”، هذه البقعة المنسية على خريطة الجغرافيا والذاكرة، ليقدم لنا استعارة مُرّة للعالم العربي الذي ابتلعته أوهام الماضي وحاضر التردي. انفجار ذلك “الشيء” الغامض في سماء القرية عام 1977 ليس حدثًا بقدر ما هو علامة استفهام كونية، تسخر من يقيناتنا وتكشف عن عبثية سعينا للمعنى في عالم لا يكترث بأسئلتنا. تتجسد عبقرية ندا في هذا التفتيت المتعمد للسرد، في هذا التناثر للأصوات الثمانية التي تتصارع على تذكر ما حدث، أو بالأحرى، على اختلاق رواية تمنحهم وهمًا بالتماسك.
كل صوت في الرواية هو صدى لخيبة أمل، وندبة على جسد الذاكرة الجماعية المشوهة. إنهم ليسوا شهودًا على حدث، بل ضحايا لزمن يشوه الحقائق ويقدس الأوهام. لغة ندا هنا ليست مجرد أداة للتعبير، بل هي سكين باردة تشرح الواقع بفظاظة شاعرية. كلماته تحمل مرارة السخرية السوداء، وتعرّي زيف الشعارات الكبرى والأيديولوجيات التي قادتنا إلى هذا الخراب الوجودي. إنه يرسم صورًا كاريكاتورية لوجوه السلطة، تلك التي تتلاعب بالذاكرة وتصنع التاريخ وفقًا لأهوائها، تاركة خلفها أجيالًا من المشوهين والمنكسرين. شخصيات الرواية ليست أبطالًا أو ضحايا بالمعنى التقليدي، بل هم نماذج إنسانية مُسَخَّرة لهذا العبث الكوني.
نوح النحال، الباحث عن ابنه في غياهب النسيان، هو تجسيد ليأس البحث عن معنى في عالم فقد معناه. الشيخ أيوب، الحارس المزعوم للذاكرة، يواجه وباء النسيان بعجز مُرّ، مؤكدًا على أن الزمن أقوى من كل محاولاتنا للحفاظ على الماضي.
تتجاوز “صلاة القلق” حدود الواقعية السحرية لتقدم لنا ضربًا من العبثية الوجودية المُتَجَذِّرَة في تربة الهزيمة. إنها تسخر من فكرة التقدم، ومن إمكانية التعلم من الماضي، مؤكدة على أن التاريخ يعيد نفسه كسخرية مُرّة لا تنتهي. إنها رواية أولئك الذين فقدوا حتى القدرة على الصلاة، أولئك الذين لم يعد لديهم ما يرجونه سوى نهاية هذا العبث
“صلاة القلق” مرثية مُدَوَّنة لعالم يحتضر، واعتراف مُرّ بانتصار العدم. فوزها بالبوكر ليس تكريمًا لأمل، بل صدى لهذا اليأس العميق الذي يسكننا. إنها دعوة لفتح أعيننا على حقيقة أننا ربما نعيش في انتظار لا شيء، وأن التشبث بالذاكرة المتآكلة ليس سوى وهم آخر في هذه المسرحية العبثية الكبرى. إنها عمل أدبي يترك في النفس شعورًا بالوحدة الوجودية، ويجعلنا نتساءل بمرارة: هل كانت هناك حقًا صلاة؟ أم أنه كان مجرد قلق أبدي؟ وفي خضم هذا القلق الأبدي، تتجسد مأساة الوجود في شخوص الرواية الثمانية، الذين يمثل كل منهم صدىً مختلفًا لهذا العدم المنتصر، ولكل منهم صلاته الخاصة في محراب الأمل البعيد: الشيخ أيوب: هو صوت الماضي المثقل بالحكمة والتجربة، لكنها حكمة لم تعد تجدي نفعًا في عالم انقلبت فيه الموازين.
يمثل الشيخ أيوب الإيمان الذي يتآكل ببطء تحت وطأة العبث، ووقاره ليس سوى قناع يخفي هشاشة الروح أمام جبروت الفقد والانهيار. صلاته هي تنهيدة طويلة على أطلال عالم كان، وبحث يائس عن معنى في فراغ لا قرار له. نوح النحال: هو العقل المتسائل، الباحث عن بصيص حقيقة في ليل الجهل والوهم المطبق. يحاول نوح أن يوقظ الغافلين، أن يكشف زيف الشعارات وبؤس المصائر، لكن صوته يضيع كصرخة في وادٍ سحيق. صلاته هي محاولة يائسة لمقاومة التيار الجارف للعدم، وإدراك مرير بأن الوهم أقوى من أي حقيقة، وأن الخلاص الفردي مجرد سراب آخر. محروس الدباغ: يجسد الإنسان العادي، المطحون بين رحى القلق اليومي والخوف من المجهول. حياته سلسلة من الأعباء التي لا تنتهي، وأحلامه تذوي قبل أن تتفتح. هو رمز للصمت المقهور، وللاستسلام البطيء أمام واقع لا يرحم. صلاته هي أنين مكتوم، ورجاء خافت بأن ينتهي هذا الكابوس، حتى لو كانت النهاية هي الفناء ذاته.
القابلة وداد: شخصية مركبة تحمل في طياتها تناقضات الوجود الحادة. هي التي تهب الحياة، وهي ذاتها التي تسلبها في الخفاء، كأنما تجسد الطبيعة المزدوجة للخلق والفناء. وداد هي سر النجع المظلم، ورمز للخطيئة المبطنة والرحمة المنحرفة. صلاتها هي اعتراف صامت بعبثية دورها، وبأن الحياة والموت وجهان لعملة واحدة في هذا العالم المحتضر.
عاكف الكلاف: يمثل الحرفي الذي فقدت صنعته معناها وقيمتها في زمن الانهيار. عمله الذي كان يومًا مصدر فخر ورزق، أصبح مجرد طقس فارغ لا يقي من جوع ولا يدفع بلاء. هو شاهد على موت المهارة واندثار القيم في مواجهة القوة الغاشمة للعبث. صلاته هي نظرة حسرة إلى يدين ما عادتا تقويان على تشكيل شيء ذي معنى
محجوب النجار: كعاكف، الحرفي الذي يرى عالمه يتداعى. محاولاته للبناء والتشييد تبدو كضرب من الجنون في مواجهة خراب شامل. يخشى أن يكون كل ما بناه، وكل ما يأمل في بنائه، مجرد وهم آخر، وأن إرثه لن يكون سوى حفنة من غبار. صلاته هي طرقات يائسة على خشب الواقع الصلب، بحثًا عن ثغرة للنجاة أو بصيص للأمل.
الغجرية شواهي: هي الحلم الهارب، والجمال البري الذي لا مكان له في هذا النجع الموبوء باليأس. تمثل التوق إلى الحرية والانعتاق، لكنها محاطة بأطماع الرجال وحقد النساء، لتجد نفسها أسيرة واقع أقسى من أحلامها. صلاتها هي رقصة أخيرة على حافة الهاوية، وصرخة مكتومة ضد عالم يسحق كل ما هو نقي وجميل.
في النهاية يأتب حكيم: الصبي الأبكم، ضمير الرواية الصامت، وشاهدها الأخير على كل ما جرى. بكلامه المكتوب في الختام، لا بصوته المفقود، تتكشف الحقائق المرة وتتعرى النفوس. هو رمز للحقيقة التي قد تُخرس ولكن لا تموت، وللكلمة التي تبقى حتى بعد فناء كل شيء. صلاته هي الكتابة ذاتها، تدوين لهذه المرثية، واعتراف بأن الذاكرة، حتى المتآكلة، هي السلاح الأخير في مواجهة العدم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روائية سورية