هشام عيد
ادخر محمد سمير ندا الوقت للنهاية حتى يجيب عن كل الأسئلة. قبع كملاكم يتلقى اللكمات حتى الجزء الأخير من النزال فانتفض ليزيل غبار الشك عن روايته ويدفع الاتهامات كلها دفعة واحدة: الألسنة متعددة لكن اللغة واحدة. الرواية من الطراز القديم، إدانة الزعيم والتقليل من قيمة النصر، الإسهاب والإطناب والألفاظ العتيقة وطول الفصول…
هل هذه الاتهامات ذات وجه، أم أن الكاتب أراد إثارتها ليخبرنا برؤيته في النهاية؟
تبدأ الرواية بمقدمة من خمسة أسطر عن مريض لا علاج له سوى الكتابة. سنعرف لاحقًا أنه أبكم عانى من أحداث رهيبة. ممارسة الكتابة هي وسيلة استشفائه الوحيدة. لو أغفلت هذه المقدمة فسوف تسير في الإبهام لفترة طويلة حتى تكتشف في النهاية أن السرد دائري يعود من حيث بدأ.
تدور الأحداث في نجع المناسي،. يرويها ثمانية أفراد –كلٌ حسب مأساته الخاصة. قرية منسية معزولة لا تتماس مع العالم إلا من خلال الإذاعة. يتحكم في أهل القرية شخصان ينعمان بالقداسة وهما زائفان،: السياسي (خليل) والشيخ (أيوب). أصيبت القرية بصاعقة حولت رؤوس الناس إلى ما يشبه رؤوس السلاحف بلا شعر ولا حواجب. وفوجئوا بسطر مكتوب على جدار كل واحد منهم يعلن سرًا يخفيه عن أهل النجع -أعجبها ولا شك ذلك الذي يأتي البهائم والمقبور حيًّا، والقابلة التي رأت أنها تصلح أخطاء الرب في معجزة الخلق فتقتل الجنين الذي تظنه معيبًا ولو بإصبع زائدة، تكتم أنفاسه في هدوء ظانَّة أنها تقدم خدمة لأبويه. وفي النجع مجسم لتمثال الزعيم محاطًا بهالة من التقديس والإكبار، يحظى برأس مهيب ونصف جسد وقضيب لا يخذله الانتصاب ولا يفارق الخليلة إلا بعد التأكد من رضاها. القرية معزولة عن العالم بحقل ألغام. على عتبة كل فصل من الرواية أغنية لعبد الحليم، وقد جاء الاختيار موفقًا مؤسيًا في كل فصل (يا أخي لا تستطيع أن تكره عبد الحليم ولو ثبت أنه بوق الشيطان نفسه).
السرد يحمل بين طياته ألمًا لا يسهل إخفاؤه، لأنه الألم الأساسي الذي يعانيه الرواي، الأمل الذي انكشف عن سراب، والطموح الذي تحول إلى فاجعة. فالنصر الذي تغنت به الإذاعة، والأناشيد التي ألهبت حماسة البسطاء، كل ذلك تحول إلى سراب، لكن النجع وأهله المنعزلين عن العالم لمدة عشر سنوات يرضعون الخديعة كل يوم عن طريق خليل الذي يحتكر المذياع وينقل لهم أخبار النصر ويتلقى منهم ضريبة المجهود الحربي. ورغم مرور السنوات العشر فإن الشباب الذين انضموا للقتال لا يعودون ولا ترد عنهم أي أخبار. هل أنت بحاجة إلى أن أخبرك أن الهزيمة أودت بحياة ما يقرب من 35 ألف شاب؟ لا أريد أن أحرق الرواية فأخبرك أن خليلًًا هذا ذبح امرأته أو ربما دفنها حية ثم وأد الكلمة على لسان ابنه حكيم إلى الأبد.
الحزن هو المحرك الأساسي للأحداث إذن، الحزن من الخديعة والشعارات التي ما قتلت ذبابة. هذا حزن يعرفه أكثر من كابده واحترق به. ما أبشع أن تخدع الأوطان محبيها!
ينتابك إحساس أثناء القراءة أن الساردين متعددون بينما اللغة واحدة. كلهم يتحدثون بنفس العمق والنمط والبلاغة، لا توجد جملة عامية واحدة. تشعر أن تعدد الأصوات يقف خلفه سارد عليم. تلك هي الحيلة الأدبية المذهلة التي قضى بها سمير على تهمة اللسان الواحد رغم التكنيك البلوفوني. حيلة أوقفتني وعلمتني ونقلت السرد في الجزء الأخير إلى سيمفونية عذبة تحمل الضوء والتفسير وتكشف عن المأساة الحقيقية للفرد في نجع لا قيمة فيه للفرد. عندما تصل إلى هذه الفقرة ستتمنى أن تجد الوقت لمعاودة القراءة في ضوء هذا الفهم الجديد، عندما يأخذك الأبكم لتقف معه على الأحداث ويمنحك رؤى لم تجل بخاطرك وينبئك عن ألم لا يمكن تحمُّله. حتى البغضاء التي اشتملها النص لتمثال الزعيم هي في باطنها حبٌ كبيرٌ لوطن حطمته الهزيمة المدوية، هي بغضاء للخديعة وسرقة العقول والتباهي بالزيف في خداع البسطاء.
وينتابك إحساس أن هذه اللغة وهذه التفاصيل لا يمكن أن يدركها إلا أديب فلاح “قراري”، لا كاتب شاب قضى معظم حياته متنقلًا بين البلدان العربية. لكن الإجابة عن هذه المعضلة تتلخص عندي في جملة واحدة: لا تنقد النص خارج إطاره. الجهد والقراءة والإخلاص يمكنهم أن يأخذوا المبدع للتجوال في قعر جهنم –دانتي أليجري مثلًا.
اتُهم الكاتب عند إعلان الجائزة بكراهية الزعيم، رغم أن التمثال في النهاية لم يكن إلا لخيال مآتة وليس الزعيم، لكن السؤال: هل حب جمال عبد الناصر فرض عين؟ هل الحكم على منجزاته تهمة يُحاسب عليها الناقد؟ ألا يحق للأديب أن تكون له رؤية سياسية معروضة في إطار أدبي؟ لا سيما وقد انكشفت الحجب عن خسائر على كل المستويات. ناهيك بمن كان أبوه ناصريًّا حتى النخاع، عاش الحلم كاملًا وارتفع معه إلى السماء ثم انكب على جذور رقبته يجرع المأساة ويلعق الحزن حتى النخاع أيضًا. ثم أن الكاتب طرح السؤال صراحة في الرواية: “أيُعقل أن يظل الغافلون في خصومة مع رجلٍ ميت، لمجرد أن عمد كهنته إلى ترسيخ فكرة خلوده؟”، ألا ينفي هذا شخصنة الكراهية بالكلية؟
الرواية باختصار كبيرة، يمكنك وضعها بجدراة واستحقاق بجوار روايات مثل اسم الوردة والطبل الصفيح وحفلة التيس، ذلك النوع الذي لا يستطيع الاستمرار فيه إلا قارئ صبور لا يضجر من تشابك السرد وكثافة التفاصيل ووعورة المسلك والرهان على الوقت، لأنه يعلم أن السارد في النهاية سيفضي إليه بكل الأسرار.
وكحال الروايات الكبيرة كلها، تعتريك مشاعر متباينة بين الرفض والقبول والضجر والحماسة والحضور والنفور.
أما مآخذي على الرواية فهي عدم وجود البؤرة الأدبية التي ينبغي أن يدور حولها النص فيرتبط بها القارئ. الأحداث تتحرك ببطء. لقد ترك الأديب النيزك الذي أحال رؤوس الناس إلى سلاحف معلقًا بلا تتبع. خط درامي ينتمي بشكل أو بآخر إلى الواقعية السحرية لا أعرف كيف أهدره فلم نجد له أثرًا فاعلًا في باقي الرواية. كما كنت أتمنى أن يكون الاهتمام بمقطوع اللسان مبكرًا حتى أرتبط كقارئ بالمأساة من البداية. أما مسألة الإطالة فقد وجه الكاتب الاعتذار عنها في النهاية على لسان الراوي نفسه.
وأخيرًا، كل ما قلته يعتبر شخصيًّا وانطباعيًّا لأنني لست بالناقد. إنما أحببت أن أشارك برؤيتي وأدلي بدلوي بين الدلاء.
وفي النهاية، أضيفت لمصر جائزة معتبرة، ولدار النشر المشهود لها بحسن الانتقاء عنوان جديد في لائحة الشرف، وإني لأحسب أن أباه الذي في السماء أشد به فخرًا في لحظة المجد الجميلة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روائي مصري
روائي مصري