صلاة القلق .. صلاة زائفة لمجتمع مغيَّب

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

سما زيادة 

تقوم الجماعات الإنسانية كلها على عوامل متشابهة من علاقة صريحة تجمع بينهم، وأدوار إجتماعية ومعايير محددة، ولا يخرج عن هذا النسق جماعة من الجماعات.
وفي صلاة القلق قدم لكنا الكاتب محمد سمير ندا، نموذجاً لمجتمعين إنسانيين، ولكن اندمج في الرواية الواقعي بالمتخيل، بدرجة ستتبين معها لاحقاً أن صفات هذا المجتمع تنطبق على الإثنين، ويالها من مفارقة.
كفر المناسي، كفر في صعيد مصر، اُدخل في عزلة قهرية منذ نكسة 1976 وإلى مالا نعرف، أحاطوهم بالألغام، ومنعوا عنهم الأخبار ولا يعرفون خلف نجعهم شيئاً.فلماذا؟
بدأت أحداثه معنا بعد مرور عشر سنوات أي سنة 1977، وسقوط نيزك من السماء، تبدل من بعدها حال الناس وأصابهم وباء غريب، انقلبوا بسببه مسوخاً، وذلك بعد انقطاع اخبار ابنائهم عنهم منذ انتصار 1967-هذا ما قالوه لهم- ليبدأ في هذه السنة بداية الأحداث.

فلسطين ..رمانة الميزان
في كفر المناسي هذا، والذي  سمي هكذا في إشارة مناسبة صفة وحالاً. سنجد أن فلسطين حاضرة وبقوة، سواء في ذكرها، وانتظار الأهالي لابنائهم الذين ذهبوا ليحرروها، أو في شخصية زكريا النساج هذا الرجل فلسطيني الأصل، والذي غيبت الحرب ابنائه الثلاث، وتحاول السلطة الحاكمة بالنجع أن تتغاضى عن بطولات ابائه في المقاومة.

ولهذا صوره الكاتب بأنه مات حراً مقتولاً في الترعة، ولم يصيبه الوباء مثلهم.

بل أن مقتله جاء على يد تمثال الزعيم، والذي في نظري هو تجسيد لكل الحكام الطغاة، وأيضاً إشارة واضحة لمقتل هذا الشعب معنوياً على يد معاهدة السلام.

تغييب الوعي وخداع المجتمع

قد تقوم السلطة الحاكمة بخداع مجتمعاتها بشتى الطرق، وتزييف وعي أبنائها لإخفاء الحقائق، لأسباب عدة، وها هنا في كفر المناسي، عزلوا المجتمع، وأخذوا الأبناء عنوة، وأوهموهم بالنصر وقت النكسة، بل أوهمهم بقداسة الزعيم وأنه لا يموت، وبأن الحرب مازالت مستمرة، وأن الأبناء قادمون بتحرير فلسطين.
“آمن الناس بقداسة الصنم حتى اقتنع الصنم ذاته بقداسته، فشرع يتجول بين رعيته ويعيث في رعيته رعباً ومجوناً”
وهنا نجد تورية ومثال صريح للمجتمعات التي تأله حكامها، وتصم آذانها عن الحقائق ولاتصدق سوى زعيمها، قتنقلب الهزيمة لإنتصار، وتغلق عليهم السلطة الأبواب ليظلوا في عزلة إجباربة، بحجة الحماية، والتمجد ببطولات زائفة.
فلماذا يحدث هذا كله؟
جدير بالذكر أن الكاتب تلاعب بنا أيضاً وأغرقنا بين الواقعي والمتخيل

الجهل والحكمة والصراع الأزلي:

منذ البداية وهناك صراع دائر مابين الجهل والتعليم.

فالنجع هو ثلة من الجهلاء، الذين ساعدت القوة الحاكمة المتمثلة في الخوجة، على إبعادهم عن التعليم، فأصبحوا مع الوقت لا يفقهون شيئاً ليتم السيطرة عليهم، والوحيد الذي أصرت أمه على تعليمه، قُطِع لسانه لكي لا يقول الحقيقة.

إذن الرواية هنا تناقش أهمية الجهل في عمى المجتمعات وتغييب وعيها، وعزلها عن الواقع.

في مقابل الحكمة والعلم متمثلة في حكيم، وهو هنا الناجي الوحيد من وباء النجع

كرمزية آخرى على أن المعرفة هي الناجية بأصحابها في أي زمن، وكأن الوباء هنا هو وباء الجهل، وهو الذي أصابهم بما أصابهم.

“نحن قوم تحيا أسفل خارطة تبسطها الحكومة أمام القادة على طاولة الحرب، لا يبصروننا ولا نلمح حتى ظلالهم لكننا نختنق”

وأيضاً بجانب المعرفة، هناك الفن متمثلاً في شواهي

فليس مصادفة أن يجعل الكاتب حكيم وشواهي هما الناجيين الوحيدين.

ولكن برغم هذا، نكتشف أن هذا الوعي، تأثر بهذا المجتمع بشكل كبير، فأصبح وعياً منقوصاً، معرفة غير سوية، تحتاج للتأهيل، وللرعاية وللبوح لتتعافى. فهل يتضرر الحكماء بغباء مجتمعاتهم؟

الدين أفيون الشعوب

ليس من باب المصادفة أن تكون بالرواية شخصيتين فارقتين في أهل النجع جعفر الولي وابنه الشيخ أيوب

فالدين هو عنصر أصلي في اللعب بالعقول بجانب الجهل

فجاء الولي الذي نجا من الموت وهو يحلم بشواهي فجعلوه صاحب كرامات

والشيخ الذي يستقبل القبلة فيحلم بشواهي ويحرف آيات من القرءان لتأييد الزعيم، ويخترع صلاة القلق ليزيد الناس ضلالاً.

وكيف لا والدين هو وسيلة من الوسائل التي يتم التلاعب بها للسيطرة على المجتمعات.

التلاعب بالقارئ

هذا النص الأدبي – صلاة القلق- من أبدع ما قرأت في الحقيقة، وأمتع ما قرأت، تلاعب بنا الكاتب في مستويات مختلفة من السرد، بدءاً برواة ذاتيين، يتخللهم راو عليم يعطي بعض الإشارات ويفسر ماهو مخفي، ليفاجئنا بأنه ليس هذا ولا ذاك وأنك أمام راوٍ غير موثوق فيه، وأنك بداخل عقل أحدهم، لتفاجئ مرة آخرى بأنك أمام حقيقة آخرى- ورغم هذا فاستهلال الرواية كان عنده الحقيقة ولكن بعقل غير واعٍ لم نلتفت إليه

في تلاعب مقصود، يجعلك تتمايل طرباً من كم المفاجئات، وأيضاً اعجاباً بين تشابه الحدثين، وأعراضهم، وظروف الحياة

وكأن التأله والعزله والخداع وغش الناس، عندما يكون لتغييب الحقائق يصبح مثله مثل الوباء الذي يؤدي لطمس الوجوه.

شخصيات حية برغم خلل الحقائق

ورغم هذا فالشخصيات جاءت حقيقية جداً، ولا أعرف كيف جعلهم الكاتب متوائمين، لينطبقوا على الواقعين بهذه الدقة

وكيف لم نلاحظ ونستغرب أفعالهم، ونجد لها تفسيراً في الآخر، فلم نقف عند طمس الوجوه، واقتنعنا بالوباء، وعزلهم عن المحيطين بهم، وغرتنا الحرب

لنجد الحقيقة الغائبة، لقد اقنعنا كلاً منهم بمأساته، فتعاطفنا مع وداد وصدمتنا أفعالها، وقلوبنا ذهبت مع محجوب النجار ونفقه، وإيمانه بجنينه ومحاولات إنقاذه، والكلاف وعلاقاته بغنمه، والدباغ وابنته المعاقة، فتسائلنا من منهم استحق الوباء هذا، ومن منهم لا .. وأخيراً كان لغياب شواهي ووداد عندي غياب للمستقبل والحياة .. وهو بالفعل مصير هذا النجع.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كاتبة مصرية

مقالات من نفس القسم