“رماد الأسئلة الخضراء” .. الاندماج مع الوجود

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

ولاء  الشامي

مُقاربة إيكولوجية لديوان “رماد الأسئلة الخضراء” للشاعر محمد إبراهيم أبو سنة

يعد النقد البيئي من الاتجاهات النقدية الحديثة، التي ظهرت في الآونة الأخيرة، فقد بدأ “كمدرسة في النقد الأدبي في التسعينيات”([1])، بغية إعادة النظر في النصوص من منظور الاقتران بالطبيعة أو بقضايا البيئة؛ فالنقد البيئي “يُعنى بالعلاقات بين الأدب والبيئة أو كيفية تمثيل علاقات الإنسان ببيئته المادية في الأدب”([2]).

والناظر إلى قصائد الشاعر محمد إبراهيم أبو سنة([3]) سيلمح فيها ذوبانًا مع الطبيعة لكن من غير فناءٍ مُطلق؛ إذ يتوحد معها وفق فلسفة تأملية عميقة، ليحيلها إلى مرآة يُدقق فيها إلى روحه فتمنحه المجال للتحاور الداخلي.

والإنسان “لا يمكن أن يوجد دون مكان”([4]) لذا فإنه يُجد السعي دائمًا عن هوية له. وفي شعر محمد أبو سنة قد نجد أن عناصر الطبيعة متكررة كالبحر، والرياح، والأشجار، لكن تكرارها ليس نابع من كونها مجرد صور جمالية، بل رموز لذاته الباحثة عن المعنى، ليتجاوز بذلك النزعة التأملية الرومانسية إلى نزعة وجودية، كأنما يتأمل العالم كله ليس بعين شاعر فقط، وإنما بعين فيسلوف أيضًا.

إن الشاعر حين يجمع شعره ما بين دفء العاطفة والرؤية الفلسفية العميقة، فإنه بذلك يظهر في سماوات الشعر كصوت طائر متفرد. ومحمد أبو سنة ذاك الطائر المغرّد؛ إذ يكتب شعره بلغة شعرية عذبة، وموسيقى داخلية([5]) تنساب برهافة من غير أن ينغمس في الغنائية المجوّفة، إنه يتوسل بهذه الشعرية حتى يستقصي جوهر الوجود الإنساني، متأملًا للصراع ما بين الحلم والواقع، أو بين الأمل وخيباته.

وقبل البدء في المقاربة الإيكولوجية للديوان، ينبغي أن نتوقف عند سؤالين مهمّين:

  • هل هذا الديوان يقدم رؤية بيئية -وإن كانت غير مباشرة-، أم أن استدعاءه للطبيعة من أجل أن يُعمق تساؤلاته الفلسفية؟
  • هل قصائد الديوان تتجلى فيها الطبيعة ككيان مستقل كجزء فاعل من التجربة الشعرية، أم أنها مجرد استعارة لهموم الشاعر الداخلية؟

إن كان النقد الإيكولوجي في جوهره يصف البوتقة البيئية التي يقف فيها الإنسان ومن خلالها تنبني علاقاته بمفردات الطبيعة وبغيره من الكائنات، فيبحث في كيفية تشكل رؤيتنا للعالم الطبيعي داخل النصوص الأدبية، فإن قراءة ديوان (رماد الأسئلة الخضراء) وفق هذا المنظور -كقراءة مؤوّلة([6])– قراءة ضرورية؛ خاصة وأنه يُكثف حضور عناصر الطبيعة في قصائده لا كمجرد وصفٍ لمشاهد خارجية، وإنما كجزء من التجربة الوجودية والعاطفية، تعكس المشاعر العاطفية والقلق الوجودي.

إن النقد الإيكولوجي يفتح بابًا لفهم الأدب من وجهة نظر جديدة، لا يكون الإنسان فيها المحور الوحيد، بل تمتد إلى الكون بكل مفرداته.

فالإيكولوجيا العميقة -كفلسفة بيئية- التي تقوم على فكرة أن البشر لا ينفصلون عن الطبيعة إنما تدعو إلى احترام الطبيعة من منطلق أن لها قيمة ذاتية بغض النظر عن فائدتها للبشر، وهي بهذا تتجاوز النظرة الأداتية للطبيعة، وترى أن الإنسان والكائنات الأخرى ليسوا سوى مظاهر متعددة لحقيقة واحدة متشابكة، هذا الإحساس العميق بالاندماج مع الطبيعة يولد شعورا بالمسؤولية تجاهها مما ينعكس على ممارسات بيئية أكثر استدامة. وحين يصور الفن الطبيعة ككيان حي يتفاعل مع الانسان يعزز من قوة هذه الممارسات.([7])

ففي هذا الديوان، وبالرغم من تأثر الشاعر البادي بالمدرسة الرومانسية، إلا أن حضور الطبيعة في تجلياتها المشوبة بالحلم، ليس حضورًا يقصد به الهروب من واقعه، وإنما لفهم واقعه والاقتراب منه؛ من ذلك يتبدى قلقه الوجود وشعوره العميق بالغربة؛ فيعيد بشعره مساءلة الحياة عن معناها، موظّفًا الرمز والأسطورة، مما يفتح الباب لتأويلات متعددة لشعره، مانحًا المتلقي حرية تأويل صوره. فقصائده تتجاوز البوح الشخصي إلى محاولة لإعادة تشكيل عالم مضطرب من خلال لغة مجازية ذات دلالات عميقة تحمل ظلالاً كثيفة من التأمل والدهشة.

الإهداء:

إلى السحابة الجميلة

التي رحلت

وما زالت تمطر في قلبي([8])

قصيدة ” أسئلة خضراء”،:

“نَفَرتْ كغزالةْ

في ثوبٍ يشتعلُ على كتفيها جمرًا

تنهمرُ غِلالة

عند الساقين فيرتفعُ الموجُ..

على ساحِلها الأزرقْ

يَنْبُوعٌ أخضرْ

يتلألأُ وسط َالغاباتِ الحمراءْ

ظمئِي يقتلُني ويداها

ترتفعان على أفقٍ من ماءْ

من هذي الحسناءْ؟

“وتنهدت الأشجارُ

تبدلت الأنهارُ

تكلمت الأشياءْ

رقصتْ في قلبِ “الجَوْقَةِ”

فاحمرتْ أحجارُ القلبِ الخرساءْ([9])

رفعتْ قلبي من مقبرةِ..

السنواتِ العاريةِ الجدباءْ

ليهبَّ ربيعٌ مشتعل

 بصفاءِ يديها

وحرائقِ خديها

وجنونِ الصدرِ المنفعلِ

وجبهتها الشَّمَّاءْ

…….

زوّجتْ البدرَ لِلَيلىِ

والبحرَ لهذي الصحراءْ

أيقظتْ الطفلَ وشدَّتْهُ

كي يكملَ قوسَ رجولتِه

ويمارسَ كلَّ جنونِ..

.. البحرِ

وأمواجَ الجسدِ..

..ويعرفَ دفء الإفضاء([10])

قصيدة (رحيل)

“شراعٌ وحيد

يحاولُ أن يجرحَ.. الأفقَ

في الزرقةِ المائجةْ”([11])

“.. هذا الوادعَ الأخيرَ..

الذي أَغرقَتْهُ..

الأظافرُ في اللجةِ

الهائجةْ”([12])

قصيدة (خريفيّة)

“لماذا الأسى في خريف المغيبْ؟

يبعثر هذى العيونَ الخفيةَ

………

لماذا الأسى في خريف المغيبْ

يبلل وجه الأحبة بالماءِ

……..

لماذا الأسى في خريفِ المغيبْ

يبلل صوتَ الأغانىِ القديمةِ

………

لماذا الأسى في خريفِ المغيبْ

يباغتُ هذا النداء الأخير”([13])

“وهذا سحابٌ تَمَزَّقَ

فوق نواصِى الجبالِ..

على هيئةِ الطيرِ يسعى

سحابٌ على هيئةِ الكائناتِ

التي تتعاركْ

فهودُ تنازل أندادَها

والغزالُ الذي فر من موتِه”([14])

وقصيدة (النسور)

“النسورُ الطليقَةُ هائِمَة

في الفضاءِ الرَّمادِي

تَرْصُدُ مَوْقِعَها ..

في أعالي الجبال ..

إنها تتَذَكَّرُ شكلَ السهول ..

بخُضْرَتِها

بتَدَفُّقِ غُدرانِها ..” ([15])

“تتَعالَى تُحَلِّقُ مثلَ الشموسِ التي

أفلَتَتْ من مَداراتِها ..

يصبحُ الأفقُ مِلْكًا لها ..

والنجومُ مناراتِها ..

والخلودُ احتِمالْ ..

عندَها تأخُذُ الكبرياءُ ..

التي قتَلَتْ جوعَها ..

تتَمَدَّدُ … تنسَى ..

ترابَ السهولِ ..

اخْضِرارَ الحقول

انْبِساطَ الرِّمالْ”([16])

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ناقدة مصرية،
مقدمة بحث بنفس العنوان حائز على جائزة المجلس الأعلى للثقافة 2025 في النقد 

([1]) النقد البيئي دراسة بينية في الأدب والبيئة، جيليكا توشيتش، ترجمة: سناء عبد العزيز، مجلة فصول، ع: 102، محكمة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2018م، ص: 328.

([2]) المرجع نفسه: 328.

([3]) وُلد الشاعر المصري محمد إبراهيم أبو سنَّة عام 1937 في قرية الوادي بمركز الصف، محافظة الجيزة. حصل على ليسانس كلية الدراسات العربية من جامعة الأزهر عام 1964.

بدأ مسيرته الأدبية في الستينيات، وبرز كأحد أهم شعراء جيله. تميزت أعماله بسلاسة الأسلوب وعمق المشاعر، خاصة في قصائده الغرامية. أصدر 12 ديوانًا شعريًا، منها “قلبي وغازلة الثوب الأزرق”، “البحر موعدنا”، “الصراخ في الآبار القديمة”، و”رماد الأسئلة الخضراء”. بالإضافة إلى الشعر، قدم مسرحيتين شعريتين وعشر دراسات أدبية.

عمل في الإذاعة المصرية، حيث تولى منصب مدير عام إذاعة البرنامج الثقافي، ثم نائبًا لرئيس الإذاعة المصرية. حصل على عدة جوائز، أبرزها جائزة الدولة التشجيعية في الشعر عام 1984، وجائزة أحمد شوقي الدولية للشعر عام 2021، وجائزة النيل في الآداب عام 2024. تُوفي في 10 نوفمبر 2024 عن عمر يناهز 87 عامًا، تاركًا إرثًا أدبيًا غنيًا، يُنظر:

([4]) النقد البيئي دراسة بينية في الأدب والبيئة، جيليكا توشيتش: 328.

([5]) فبالرغم من عدم تقيّده بالأوزان الشعرية التقليدية، فإن محمد أبو سنة يمتلك حسًّا موسيقيًّا مُرهَفًا، معتمدًا على الإيقاع الداخلي، الذي يتناغم مع الحالة الشعورية للقصيدة التي يكتبها، محتفظًا بصوته الخاص النابع من تجربته الوجودية.

 ([6]) إذ يسبر هذا المسار النقدي في قراءته لديوان “رماد الأسئلة الخضراء” وفق المدخل الإيكولوجي مُتَّكِئًا على إسقاط المفاهيم البيئية على النص، وليس على قراءة مبنية على خطاب بيئي صريح داخل الديوان.

([7]) يُنْظَر: الإيكولوجيا العميقة عند أرني نيس: دراسة في فلسفة البيئة المعاصرة، وجدي خيري نسيم، مجلة كلية الآداب، جامعة الفيوم، مج: 13، ع:1، 2021م، ص: 1485.

 ([8]) رماد الأسئلة الخضراء، شعر: محمد إبراهيم أبو سنة، دار الشروق، القاهرة، 1990م، ص: 5.

 ([9]) المصدر نفسه: 9.

 ([10]) رماد الأسئلة الخضراء، محمد إبراهيم أبو سنة: 9، 10.

 ([11]) رماد الأسئلة الخضراء، محمد إبراهيم أبو سنة: 14.

 ([12]) تمامًا كالطبيعة بوصفها عالمًا متغيّرًا؛ فتكون هذه التغيُّرات موازية لتحولات مشاعر العاشق، خاصة وأنها تدور وفق زمن لا يمكن وصفه بأنه مجرد إيقاع خطي، بل هو دائرة متجددة تضم تفاعلات الإنسان ببيئته.

 ([13]) رماد الأسئلة الخضراء، محمد إبراهيم أبو سنة: 18-22.

 ([14]) المصدر نفسه: 18 ،19.

 ([15]) رماد الأسئلة الخضراء، محمد إبراهيم أبو سنة: 66.

 ([16]) رماد الأسئلة الخضراء، محمد إبراهيم أبو سنة: 67.

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي art 14
Uncategorized
موقع الكتابة

انتحار